في العام 1954 تقدم اللواء محمد نجيب باستقالته من منصب رئيس الجمهورية وخلا الموقع وكان لابد من شغله ولم يكن التفكير وقتها يتجه إلي فتح باب الترشح وإجراء الانتخابات ولذا استقر الأمر علي أن يتولي أحمد لطفي السيد هذا المنصب وهو الفيلسوف والكاتب وأيضاً السياسي الكبير أحد قادة العمل الوطني منذ مطلع القرن العشرين أسس جريدة “الجريدة” لسان حزب الأمة وكان من قيادات ثورة 1919 تولي الوزارة عدة مرات في فترات مختلفة فضلاً عن أنه مدير جامعة القاهرة ومدير دار الكتب المصرية ومترجم أعمال أرسطو إلي اللغة العربية.
عرض أمر رئاسة الجمهورية علي لطفي السيد وراح يستشير بعض أصدقائه وتلاميذه ومن بينهم د.إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية فيما بعد وزير الشئون البلدية لمدة 24 ساعة في إحدي الوزارات قصيرة العمر قبل 23 يوليو.
مباشرة يذكر د.مدكور أن لطفي السيد كان شديد الإعجاب بحركة الضباط الأحرار وثورة 1952 وأنه قال فيها كلمته المشهورة “لأول مرة تحكم مصر بأبنائها” وأن رجال يوليو قدروا له هذا التأييد واعتزوا به اعتزازاً كبيراً. ولما تلقي هذا العرض كان قراره أن هؤلاء الشبان بدأوا تنفيذ مشروع وطني حلم به هو وأبناء جيله ومات لطفي السيد دون أن يشير إلي هذا الأمر نهائياً لم يتفاخر ولم يزداد به ولم يعلن عنه الضباط الأحرار ولم نكن نعرفه حتي كتبه د.مكور في كلمة له بالكتاب التذكاري عن لطفي السيد الذي أصدره المجلس الأعلي للثقافة سنة 1986 وتكتمل الصورة برواية الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل لمجلة المصور إذ أعلن أنه هو من ذهب إلي لطفي السيد يفاتحه في الأمر بتكليف من رئيس الوزراء سنة 1954 جمال عبدالناصر وأن أستاذ الجيل قال له “قل لصاحبك أن يخرج إلي الناس ويتقدم هو فالتجربة تجربته”.
كان اعتذار لطفي السيد مفاجئاً بالتأكيد خاصة للضباط الأحرار فقد خبروا منذ مغادرة الملك فاروق لمصر يوم 26 يوليو. وتهاتف الكثيرون علي المناصب وسيطها قبل رفيعها وكان معظم المتهافتين من غير 1952 ذوي الكفاءة أو الاستحقاق مثل سيد قطب الذي انحني طويلاً أمامهم من أجل منصب وزير المعارف العمومية ولما لم ينله انتقل إلي خانة العداء المطلق فما بالنا بالمنصب الأرفع رئيس الجمهورية الذي تآمر البعض وذهبوا إلي القتلة والإرهابيين يتحالفون معهم للفوز به أو موقع قريب منه وهناك من ذهب إلي قوي دولية يتحالف معها ضد بلاده لعلها تدفع به إلي منصب رفيع أو علي الأقل يظل في المشهد وثائق تلك الفترة تثبت ذلك.
لم يكن لطفي السيد رافضاً للموقع الكبير لمجرد الرفض ولا عازفاً عن أداء دوره العام كان مؤيداً ومسانداً لم يكن معارضاً ولا ممتعضاً لكنه كان يدرك أنه لا يليق أن يقفز علي تجربة غيره ولا أن يحصد ما بذره آخرون وأن الأمور والشخصيات لا تقاس بانتهازها للفرص ولا استغلال اللحظات التي يبدو فيها الموقف العام ضعيفاً أو رخواً بالتأكيد حين تقدم جمال عبدالناصر بهذا العرض هو وزملاؤه من أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا جادين ومخلصين وكانوا يريدون تقديم شخص يدركون أن اختياره سوف يلقي قبولاً وتوافقاً من الاتجاهات الوطنية المختلفة كان بإمكان لطفي السيد أن يسد الفراغ الذي خلفه اللواء نجيب.
ويجب القول إن محمد نجيب أول رئيس جمهورية امتلك في لحظته جماهيرية واسعة كان بسيطاً.. متواضعاً وجاب البلاد من أقصاها إلي أدناها مما خلق ارتباطاً واسعاً بينه وكثيرين من أبناء شعبه وكان انسحابه من المشهد مصدر قلق لكثيرين في الداخل والخارج لم تكن كاريزما عبدالناصر قد ظهرت بعد ولا تحقق له الارتباط الكاسح بالجماهير الذي تكون فور اتخاذ قرار تأميم قناة السويس سنة 1956 لكن لطفي السيد غلب النظرة إلي المستقبل وأراد أن يمارس دوره الفكري والتربوي إن صح التعبير بأن يشجع تجربة ومشروعاً بدأه عبدالناصر ومن معه ولم يكن هو له دور فيه وبالأحري كان بعيداً عنه وأن من حقهم أن ينالوا فرصتهم كاملة.
كان لطفي السيد بعمقه الفلسفي مستوعباً حكمة الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” وهي “امضي في الوقت المناسب”.
وهي تقريباً نفس الحكمة المصرية البليغة التي تقول “كل شيء يختشي من أوانه” لكن منذ سنوات ليست قليلة أطلت علينا مقولة أخري يتغني بها البعض تقوم علي تجميد الزمن والتاريخ عند لحظة معينة ورغم الانتقادات العديدة لهؤلاء فإنهم لا يتغيرون في إحدي رواياته أطلق نجيب محفوظ علي لسان أحد الشبان عبارة “نحن نعيش زمن الكهول الأوغاد” يشكو فيها من هؤلاء الذين يحجبون حتي ضوء الشمس عن الأجيال الجديدة وفي مسلسل “الحاج متولي” حين رفضت الفتاة الصغيرة طلب الكهل الزواج منها حاولت أمها أن تلطف الموقف وقالت له “خلاص يا حاج.. هناخد زمنا وزمن غيرنا” رد عليها “الزمن هيفضل زمني أنا”.
والكهولة دائما رمز الحكمة والتعقل الرصانة والرزانة إذ توفر لصاحبها الخبرة والقدرة علي التحرر من ضغوط الاندفاع أو التهور الذي قد يصاحب بعض الشبان ولكنها مع بعض الأشخاص قد لا تكن كذلك إذ يتصور بعضهم أن بإمكانه عناد الزمن والسير عكس الطريق ويصبح عبئاً علي من حوله وعلي الجميع.
الحق أن الحياة والتاريخ في جوهره هو صراع بين هذين المدرستين مدرسة لطفي السيد التي تحترم الزمن والتاريخ وترفض أن يقفز أبناء جيل علي جيل آخر ومدرسة “الحاج متولي” التي تري أن الزمن يجب أن يتوقف عندهم وتصير كل الأزمان لهم هؤلاء قد يتحولون في لحظة إلي وحوش ضارية تفتك بمن يرفض مبدأهم ومن يعترض رغبتهم في احتكار الزمن وقد يدمرون كل شيء يدمرون أنفسهم والآخرين من أجل الإمساك باللحظة وبالزمن في أيديهم وتجميده لحسابهم.
هذا الصراع هو قضية مصر الحديثة والمعاصرة لم تكن تجربة محمد علي ومن بعده إسماعيل باشا سوي نموذج واضح كان محمد علي يريد أن يتقدم بمصر إلي الأمام لتأسيس الدولة الوطنية الحديثة بإزاء دعاة العثمانية وبقاء المماليك بفسادهم وجبروتهم.
في كل مناحي الحياة نجد هاتين المدرستين في الفكر الديني نفسه أمامنا جماعات الإرهاب وخيانة الأوطان تزعم أنها تريد أن تعود إلي ما كنا عليه قبل قرون وهي تريد أن تكره شعوبنا علي ذلك إكراهاً وفي الفكر وفي المجال السياسي أيضاً هو الصراع نفسه ولا غرابة في أن نري تقارباً وتوافقاً بين أجنحة مدرسة جمود الزمن وتوقف التاريخ حتي وإن كانوا في الظاهر متباغضين أو حتي لو تعاركوا أو تصارعوا في لحظة ما هم في النهاية أجنحة في نمط واحد فيلتقون معاً في لحظة متكاتفين ومتحابين رغم أنه تكاتف المصالح وتساند الانتهازية لمنع مسار التاريخ وتوقف الحضارة.
ودرس التاريخ والسياسة والثقافة يعلمنا أن الزمن لابد أن يتحرك ويسير إلي الأمام لا أن يتجمد ويتوقف ولا يرتد إلي الوراء.