منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع دولي وإقليمي، حيث تداخلت المصالح وتعقّدت التحالفات.
كان محمد الجولاني، زعيم «هيئة تحرير الشام»، أحد أبرز الأسماء التي ظهرت في هذا المشهد المضطرب، حيث انتقل من زعيم فصيل مسلح متشدد إلى شخصية سياسية تحاول إعادة تموضعها دوليًا وإقليميًا.
هذا التحول الكبير يثير تساؤلات حول الدور الذي يُراد له أن يؤديه في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل الحديث المتزايد عن إعادة هيكلة القوى في الشمال السوري واتجاه البلاد نحو التقسيم.
عُرف محمد الجولاني، زعيم «جبهة النصرة» سابقًا، بولائه لتنظيم القاعدة قبل أن ينفصل عنه في 2016، ليعيد تشكيل الفصيل تحت اسم «هيئة تحرير الشام».
هذا التحوّل لم يكن مجرد تغيير اسمي، بل كان خطوة استراتيجية تهدف إلى كسب اعتراف دولي وإقليمي، والابتعاد عن التصنيف الإرهابي. ومع مرور السنوات، أصبح الجولاني أكثر انخراطًا في المشهد السياسي، حيث بدأ يظهر بملابس مدنية، مستضيفًا شخصيات إعلامية غربية، في محاولة لرسم صورة جديدة له كقائد محلي وليس كـ«إرهابي دولي».
في الآونة الأخيرة، تصاعدت مؤشرات القبول الدولي التدريجي للجولاني، حيث لم يعد يُنظر إليه كعدو مطلق، بل كجزء من معادلة المصالح الدولية في سوريا، لا سيما مع استمرار النفوذ التركي في إدلب والشمال السوري.
السؤال هنا: هل هذا التحوّل يعكس صفقة غير معلنة، أم أنه مجرد استغلال تكتيكي لموازين القوى الحالية؟
في السنوات الأولى من الصراع، كان الجولاني مطلوبًا على قوائم الإرهاب الأمريكية، وكان يُنظر إلى «هيئة تحرير الشام» كتنظيم إرهابي يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي.
لكن مع تغيّر الأولويات الدولية، خاصة مع تركيز واشنطن على تقليص النفوذ الإيراني والحد من توسع روسيا، بدأت لغة التعامل مع «هيئة تحرير الشام» تأخذ طابعًا أكثر براغماتية.
لم يكن مستغربًا أن نشهد تقارير تتحدث عن لقاءات غير معلنة بين شخصيات غربية والجولاني، بل إن بعض الدوائر الإعلامية باتت تروج لفكرة أنه بات «شريكًا محتملاً» في إدارة الشمال السوري، بعيدًا عن النفوذ المباشر للنظام السوري وإيران. هل يعني ذلك أن الجولاني أصبح مقبولًا لدى بعض القوى الدولية؟ أم أن هناك حسابات أخرى تتعلق بتوازنات النفوذ في سوريا؟
بينما يتحوّل الجولاني من قائد ميليشيا إلى «حاكم الأمر الواقع» في إدلب، تعيش سوريا مرحلة إعادة رسم للخرائط الجيوسياسية. فالوضع الحالي يشير إلى تبلور ثلاثة مناطق نفوذ رئيسية:
1- المناطق الخاضعة للنظام السوري بدعم روسي وإيراني.
2- الشمال الشرقي حيث النفوذ الأمريكي والكردي.
3- الشمال الغربي حيث تسيطر تركيا وفصائل المعارضة، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام».
هذا الواقع يطرح تساؤلًا خطيرًا حول مستقبل البلاد: هل نحن أمام تقسيم فعلي لسوريا، أم أن هذه مجرد مرحلة مؤقتة قبل صفقة كبرى قد تعيد تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة؟
باختصار.. ما يحدث في الشمال السوري اليوم ليس مجرد صراع بين فصائل، بل هو انعكاس لتحولات سياسية كبرى تعيد تشكيل وجه سوريا. الجولاني، الذي بدأ من الخنادق، أصبح اليوم لاعبًا رئيسيًا في هذه المعادلة، حيث انتقل من قوائم الإرهاب إلى حوارات سياسية قد تفتح له أبواب الشرعية الدولية. لكن يبقى السؤال: هل هو مجرد أداة مرحلية لخدمة مصالح إقليمية ودولية، أم أنه يسعى لتأسيس كيان دائم في الشمال السوري؟
الأيام القادمة وحدها ستكشف إن كان الجولاني مجرد ورقة في لعبة الدول، أم أنه يسير نحو دور أكبر في مستقبل سوريا المجهول.