مقدمة ابن خلدون، التي ألفها المؤرخ الشهير ابن خلدون عام 1377 ميلادية، تُعد واحدة من أبرز الأعمال الفكرية التي لا تزال تؤثر في فهمنا للتفكير السياسي حتى يومنا هذا.
في القسم الأول من كتابه «العِبر وديوان المبتدأ والخبر»، تناول تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من أصحاب النفوذ والسلطة، بينما خصص القسمين الآخرين للحديث عن تاريخ الأمم والدول وأحوالها.
من خلال مقدمته، وضع ابن خلدون مجموعة من الأفكار التي أثرت بعمق على العديد من المفكرين والفلاسفة، خصوصًا في فترة النهضة الأوروبية، مقدّمًا لهم وللعالم قوانين طبيعية تفسر صعود الدول وزوالها. ركز على مفهوم «طباع العمران»، الذي يشير فيه إلى أن الدول تشبه الكائنات الحية: تولد، وتكبر، وتموت، ولا تبقى على حالها. وأوضح أن الدول تمر بحركة متوالية من خمس مراحل تُشكّل دورة حياة الدولة.
المرحلة الأولى تبدأ بميلاد الدولة على أنقاض دولة سابقة. ثم تأتي المرحلة الثانية، حيث ينفرد الحاكم بالسلطة بعد التخلص من شركائه في بناء الدولة.
في المرحلة الثالثة، يستقر الحكم ويعيش السلطان في أجواء راحة وطمأنينة. ولكن هذه الطمأنينة تتحول في المرحلة الرابعة إلى قناعة ورضوخ أقرب إلى الجمود والمسالمة. وأخيرًا، عندما تبلغ الدولة هذه المرحلة الأخيرة، تبدأ بالتحلل التدريجي حتى تنهار وتزول.
ما يميز استنتاجات ابن خلدون هو استنادها إلى ملاحظاته الحية عن المجتمعات التي زارها وراقبها عن قرب. لاحظ كيف يُظهر سكان المدن خضوعهم للسلطان على السطح، بينما يحملون توجهات معاكسة داخليًا. كما لاحظ عدم هروب الناس من الدولة حتى لو اندلعت صراعات داخلها بين الفئات المتنازعة على الحكم.
يمكن القول بلا مبالغة إن العالم يدين لابن خلدون باكتشاف هذا المنهج الفريد الذي ابتكره لفهم مسار الدول وتاريخها. منهج يستند إلى نظرة تحليلية عميقة وطريقة مبتكرة أثبتت صدقها وجدواها حتى وقتنا هذا.