في الأزمنة التي كانت تُصنع فيها الدول على أعمدة القيم والكفاءة، لم يكن اختيار الوزير يتم إلا بعد تمحيص شديد.
الوزير كان عنوانًا للوقار، وصاحب رؤية، وقدوة في السلوك، قبل أن يكون صاحب قرار.
الوزارة كانت منصبًا يتطلب من صاحبه أن يكون مؤهلاً فكريًا، ومحصنًا أخلاقيًا، ومدركًا لمعنى المسؤولية العامة.
نحن اليوم أمام واقع مختلف، وزراء يصلون إلى كراسيهم إما بالمصادفة أو بالترضية أو من قوائم المجاملة السياسية، دون نظر إلى الكفاءة أو التاريخ المهني.
البعض منهم لا يملك الحد الأدنى من مقومات الإدارة أو حتى اللياقة، فيتعامل مع المنصب وكأنه غنيمة، لا مهمة وطنية.
في حكومة الدكتور مصطفى مدبولي، برز مؤخرًا نموذجان صارخان أثارا موجة من الجدل الشعبي والإعلامي، وطرحت تصرفاتهما علامات استفهام حول آلية اختيار الوزراء والمعايير التي تحكم وجودهم.
وزير الصحة كان محور حالة من الاستياء العام، ليس فقط بسبب تعثر الملفات الكبرى كالتأمين الصحي الشامل، وأزمات الدواء ونقص الكوادر الطبية، بل بسبب موقف شخصي اختصر فيه العقلية المتعالية التي تُدار بها بعض الوزارات.
في لقاء مباشر، اشتكى أحد المواطنين من سوء الخدمة الصحية، متحدثًا عن معاناة يعيشها قطاع واسع من الشعب.
وكان الرد من الوزير صادمًا، حين قال له: «اشكروا الحكومة الأول قبل ما تشتكوا».
ردٌ لم يكن عفويًا، بل كاشفًا لعقلية تعتبر الشكوى تقليلاً من الجميل، لا تعبير عن أزمة.
وكأن المواطن عليه أن يقدّم فروض الولاء والطاعة قبل أن يطالب بحقه في العلاج، في دولة تُفترض فيها المواطنة لا التبعية.
هذا المشهد أشعل انتقادات حادة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفتح باب التساؤل: هل يدرك بعض الوزراء فعلاً أنهم خُدام لهذا الشعب، لا أوصياء عليه؟ وهل أصبح شكر الحكومة شرطًا لتلقي الخدمات الأساسية؟
أما الوزير الثاني، فهو وزير التربية والتعليم، الذي تخلى عن دوره التربوي في لحظة مواجهة، حين أطلق لسانه في وجه مدير إدارة الباجور التعليمية بأسلوب جارح، وطلب منه الذهاب إلى مكتبه بالعاصمة الإدارية لتقديم استقالته، بحسب شهود العيان، ما أدى إلى إصابته بانهيار نفسي شديد أودى بحياته فور نقله إلى المستشفى إثر توقف مفاجئ في عضلة القلب.
إن صحت رواية الشهود، فإننا أمام جريمة «اغتيال معنوي» مكتمل الأركان، فالمشهد لم يكن مجرد زلة لسان، بل تعبيرًا عن أزمة في فهم دور الوزير كمُربٍّ وقائد لا كجلاد. أين القدوة؟ أين الحوار؟ أين إدارة المواقف بالأدوات التربوية؟
الوزير الذي يُفترض أن يكون حاميًا لكرامة المعلم، كان أول من هدمها. ومن يُهين موظفيه علنًا، ماذا يُتوقع منه في الغرف المغلقة؟
ما يجمع بين الوزيرين ليس فقط الجدل، بل غياب الحس الإنساني، وتراجع القيم الأخلاقية في إدارة المنصب العام. الكفاءة وحدها لا تكفي، ما لم تُدعّم بأخلاق، وحكمة، واحترام حقيقي للناس.
الوزارة ليست ميكروفونًا للوعيد، ولا منصة للتوبيخ، بل مسؤولية ثقيلة تتطلب اتزانًا، وتواضعًا، وفهمًا دقيقًا لأبجديات العمل العام.
قد تكون وزيرًا بسهولة… قد توصلك العلاقات أو الحظ أو لحظة فراغ في الكرسي. لكن أن تتحلى بأخلاق الوزراء، هنا يكمن الفرق، وهنا يُصنع التاريخ الحقيقي للمسؤول.
وحتى تعود الأخلاق إلى موقع القرار، سيبقى المواطن وحده من يدفع الثمن في صحته، وفي كرامته، وفي مستقبل أبنائه.