حين رفعت الحكومة أسعار البنزين، خرجت علينا بمنطقها المعتاد: «البلد في أزمة»، و«الإصلاح له ثمن».. رضخ المواطن، على مضض، وتحمّل الزيادة من قوته، وسكت اقتناعًا بضرورة الإصلاح في مواجهة المتغيرات الدولية.
المأساة لم تنتهِ عند حد السعر الرسمي. فبعد أن نهشت الحكومة ما شاءت من الجيوب، جاء دور عصابات الوقود داخل بعض المحطات لتستكمل المهمة.
عدادات مزيفة، عمال متواطئون، تلاعب ممنهج في كمية البنزين، كل ذلك يحدث تحت مرأى ومسمع الجميع، ووزارتي البترول والتموين وجهاز حماية المستهلك– كعادتهم – في سبات عميق.
ما لا يُقال في بيانات الحكومة أن ما يحصل عليه لصوص البنزين داخل بعض المحطات، من خلال التلاعب في العدادات، يفوق بكثير ما أضافته الدولة من زيادات رسمية على أسعار الوقود.
المواطن يدفع ثمن اللتر مرتين: مرة للدولة، ومرة لـ«مافيا المحطات» التي تنهب دون خوف، وتقتسم الغنائم في وضح النهار.
نحن أمام منظومة سرقة تتجاوز جشع التجار، وتقترب من بنية فساد محمية بالصمت والتجاهل.
الغريب أن الحكومة تتجاهل تمامًا هذه الجرائم اليومية، وكأن سرقة البنزين لا تندرج تحت بند الفساد، أو كأن المواطن لا يستحق حتى وقودًا نظيفًا من الغش.
هل هناك رقابة؟ أين التفتيش؟ أين أجهزة الحكومة؟ لماذا لا تُعلن أسماء المحطات المخالفة؟
المضحك المبكي أن الحكومة تطلب من المواطن أن يتحمل، أن يصبر، أن يشد الحزام أكثر، بينما الحزام نفسه يُنهب من داخله.
الإصلاح الذي يتحدثون عنه، بات شماعة يعلقون عليها كل فشل، وكل تغاضٍ، وكل جريمة تتم بحق الناس، من الأسعار إلى الوقود، ومن الخبز إلى الكرامة.
نحن لا نعيش فقط في أزمة وقود، بل في أزمة ضمير عام، وأزمة حكومة لا ترى المواطن إلا رقمًا في معادلات الجباية. أما حقه في الرقابة، أو المحاسبة، أو حتى البنزين الحقيقي الذي يدفع ثمنه، فهذا يبدو أنه ترف لا يليق بشعب «مطلوب منه أن يدفع… ويسكت».
باختصار.. تعج منصات التواصل الاجتماعي مؤخرًا بمقاطع فيديو توثق حالات غش كارثية في البنزين، من حيث الكمية أو الجودة، يرتكبها بعض العاملين معدومي الضمير دون وازع من أخلاق أو رادع من قانون.
هذه التجاوزات لا تضر فقط بسيارات المواطنين، بل تمس الأمن الاقتصادي للبلاد وتزعزع الثقة في واحدة من أهم الخدمات الأساسية.
الرقابة على محطات البنزين موزعة بين وزارتي البترول والتموين، فالأخيرة تراقب الالتزام بالبيع بالسعر الرسمي، لكن السؤال الأهم: من يفتش على جودة البنزين نفسه؟ نحن لا نتحدث هنا عن السعر، وإنما عن درجة الأوكتان، والتي يصعب اكتشاف الغش فيها دون وجود متخصصين ومعدات دقيقة.
الغش لا يقتصر فقط على جودة البنزين، بل يمتد أحيانًا إلى التلاعب بعدادات الضخ، أو خلط بنزين أقل جودة بأعلى جودة لتحقيق أرباح غير مشروعة على حساب المستهلك.
وهنا يبرز تساؤل: أين جهاز حماية المستهلك من هذه الانتهاكات؟ ولماذا لا نرى له دورًا فاعلًا في هذا الملف شديد الحساسية؟
رغم أن الرقابة من المفترض أن تكون دورية، إلا أن الواقع يؤكد غياب فرق تفتيش متخصصة تقوم بفحص المحطات عشوائيًا وبصورة منتظمة. كما لا يوجد خط ساخن موحد وموثوق لتلقي شكاوى المواطنين، ولا يتم الإعلان عن نتائج الحملات التفتيشية بشفافية.
والسؤال الأهم يظل قائمًا: لماذا لا يتم إنشاء وحدة ضبطية خاصة، على غرار مباحث التموين، تكون معنية بمراقبة محطات الوقود، وضبط المخالفين وإحالتهم للنيابة؟ أليس من المنطقي أن يكون لدينا «مباحث للبترول» في ظل أهمية هذا القطاع وحجم استهلاكه اليومي؟