تعيش أزمة الإيجارات القديمة في مصر مأزقًا متجذرًا منذ عقود، لا تحله شعارات ولا يصلحه الانحياز لطرف على حساب آخر. فالوضع أشبه بجراحة دقيقة في قلب الوطن الاجتماعي، تتطلب يدًا خبيرة لا تقطع عصب الرحمة، ولا تترك ورم الظلم ينمو في جسد المجتمع.
القانون وُلد ليحمي البسطاء من جشع السوق في زمنٍ مضى، صار اليوم سكينًا على رقاب الحميع. من يُنصف المالك الذي سُلبت ملكيته بالقانون؟ ومن يحمي المستأجر من طرد دون رحمة؟
لا المالك طماع ولا المستأجر مغتصب، لكن القانون جعل من كليهما ضحية. المطلوب اليوم مشرّع عادل، لا يهدم جدران الرحمة ولا يترك ملكية بلا كرامة.
رغم مرور عقود على صدور قوانين الإيجارات القديمة، ما زال الجدل محتدمًا، بل متجددًا، وكأن الزمن توقف عند مشهد سريالي: مالك عمارة في الزمالك يسكن غرفة فوق السطوح، ومستأجر يدفع له سبعة جنيهات شهريًا ليسكن شقة تُقدر قيمتها السوقية بملايين الجنيهات! هذه ليست نكتة.. بل أحد وجوه قانون الإيجارات القديمة في مصر.. معادلة مقلوبة تُظهر بوضوح أن الجميع في هذه الأزمة.. مظلوم.
تشير تقديرات غير رسمية إلى وجود أكثر من 2.5 مليون وحدة سكنية خاضعة لقوانين الإيجار القديم، منها قرابة 30% تقع في أحياء راقية داخل القاهرة والجيزة.
هذه الوحدات تُدر عائدًا شهريًا لا يتجاوز في المتوسط 20 إلى 50 جنيهًا، بينما تتراوح قيمتها السوقية بين نصف مليون إلى 5 ملايين جنيه، بحسب الموقع والمساحة وربما تزيد. فهل هذا يُعقل في ظل اقتصاد حر وأسعار عقارات مشتعلة؟
الوجه الآخر لا يقل قسوة.، فهؤلاء المستأجرون ليسوا كلهم أثرياء الحظ، بل كثير منهم ورث السكن كما ورث التعاقد، وفيهم المتقاعد والعامل البسيط.
لا ذنب لهم إلا أنهم سكنوا في زمن كانت فيه الدولة تقنن العلاقة بين المالك والمستأجر لحماية الفئات الضعيفة. فهل يُعقل أن ننتزع منهم جدران ستروا بها أسرهم عقودًا طويلة؟
المالك مليونير حافي.. والمستأجر باشا! .. وصف ساخر لكنه واقعي. نرى ملاكًا ورثوا بنايات شاهقة في أحياء راقية، لا يستطيعون حتى دخولها، بينما يسكنها مستأجرون يدفعون جنيهات لا تكفي ثمن زجاج نافذة. بعضهم ورث عقد الإيجار عن جده، في مشهد يبدو وكأن الزمن توقف منذ الستينيات، بينما ظلت الحياة تمضي وأسعار العقارات ترتفع، وتكاليف الصيانة تتضاعف.
أغلب هؤلاء ليسوا مغتصبي حقوق، بل أسر بنت جدران سترها على استقرار قانوني دام لسنوات. لا يجوز أن ننزع منهم هذا السقف بجرة قلم، أو بحكم قاسٍ يخلعهم إلى المجهول. فالتشريد ليس عدلًا، والانتقال القسري من منزل إلى آخر قد يهدم عائلات ويشتت أطفالًا.
المعادلة مختلة، والحل ليس في سحق طرف لحساب آخر، بل في تقنين ذكي ومتدرج عبر:
- تحريك الإيجارات تدريجيًا مع مراعاة ظروف المستأجر.
- فتح باب التصالح الاختياري بين المالك والمستأجر بمزايا للطرفين.
- إعفاء الحالات الاجتماعية الحرجة من أي زيادات.
- تمكين الدولة من تقديم دعم انتقالي للمستأجرين الأضعف، إن لزم الأمر.
- السماح للمالك بالاستثمار في العقار أو استعادته بتسوية عادلة.
إنه ملف لا يحتاج صراخا وعويلاً، بل يحتاج جراحًا ماهرًا، مشرطه في يد القانون وقلبه في ميزان العدل. نحتاج قانونًا يعيد الحق دون أن ينزع الستر، ويُنصف المالك دون أن يُشرد المستأجر. فالمجتمع القوي هو من يُنقذ المظلومين.. لا من يختار أحدهم ويترك الآخر يغرق.
باختصار.. نحن أمام جدران ستر لا يجوز هدمها، لكن أيضًا أمام حقوق ملكية لا يجب دهسها. لذا فإن الإصلاح هنا يحتاج «جراحًا ماهرًا»، مشرطه بيد العدالة، وقلبه في ميزان الرحمة. لا نريد تشريد أسرة ولا تجويع مالك. بل نريد نظامًا ينهي المأساة بصمت القانون، لا بصخب الشكوى.
قانون الإيجارات القديمة ليس مجرد نصوص، بل قضية كرامة اجتماعية، ولأن الطرفين مظلومان، فإن الحل لا يجب أن ينتصر لأحدهما بل للعدل وحده.