بقلم – محمد عبداللطيف:
قبل أن تقرأ لا بد من الإقرار بأن ما جرى فى ٢٥ يناير ٢٠١١، لم يكن حدثًا عاديًا، يمكن النظر إليه من زاوية رؤية ضيقة، محصورة فقط فى خروج الملايين إلى الميادين، مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية أو حصرها فى رحيل مبارك، لكنه سيجبر التاريخ على التوقف أمامه طويلا، باعتباره حدثا فارقا، وإن أحاط به الجدل من كل جانب بين مؤيد ورافض، شأن كل الأحداث الكبرى التى غيرت مصائر الأمم، لذا لم يكن غريبا أن يصبح حائرا فى وصفه بين الثورة والمؤامرة، ومحاطا بجدل ومعارك صاخبة لم تتوقف ولن تتوقف.
هذا لا ينفى الإقرار بحقيقة أخرى، أنها ظلت منطقة شائكة، ملغومة، بل يرى البعض، وما أكثرهم، أنها مساحة محرمة، بفعل التسلط النخبوى، ونرجسية المراهقين السياسيين، كما أنها ظلت أيضا بعيدة عن النقد الموضوعى، لأسباب معلومة، فى مقدمتها المخاوف من التعرض للاغتيال المعنوى، على أيدى مروجى الشائعات من أدعياء البطولات الزائفة، وفرسان الساحات الخالية، لوأد الجدل والاختلاف فى الحكم عليها، ما بين الإصرار على أنها ثورة، والإقرار بأنها مؤامرة مكتملة الأركان.
الحديث عن أن ما جرى مدبر ويدخل فى إطار المؤامرة ليس اتهاما عشوائيا، فما خرج من وثائق وما تضمنته أوراق التحقيقات فى قضايا ستهز الرأى العام كافيان لأن يغيرا مسارات الحكم عليها، ولا يعنى أن المشاركين فيها ضالعون فى معرفة الأسرار والترتيبات، ولا يعنى أيضا أن غالبيتهم يدخلون فى زمرة الثائرين بأجر ممن تصدروا المشهد العام فى مصر وأصبحوا نجوما بفعل الانفلات الإعلامى والانفلات الأخلاقى، بالتأكيد هناك فروق جوهرية بين الفئتين، فالملايين التى خرجت للشوارع ثارت فى وجه الفساد والاستبداد وحكم الشلة ومحاولة توريث الحكم، وقسوة الأجهزة الأمنية، ومن ثم فإن هذه الملايين هى التى أعطت للأحداث قيمتها ومنحتها شرعيتها وحددت أهدافها، وثارت مرة أخرى فى وجهها عندما انحرفت عن مسارها، فالغضب ضد نظام مبارك كان متوقعا ومشروعا، أما الدور الخارجى فهو محاولة لهندستها لتحقيق المرامى المخطط لها وليست المطالب والأهداف الشعبية.
القراءة الدقيقة للواقع الذى عاشه المصريون، تؤكد جملة من الحقائق، مفادها أن المشاهد المتزاحمة والأحداث المتنوعة أثارت الشكوك فى مراميها، وحفزت الكثيرين على البحث فى أسباب تدفقها على النحو الذى جرى، فهى تجاوزت الشعارات البراقة التى رددها المتظاهرون فى الميادين، وامتدت إلى مناحٍ متعددة، من شأنها إثارة الفوضى تحت لافتة الثورة، بما يشير إلى أن الغاية لم تكن فقط رحيل «مبارك» عن الحكم، بل إسقاط الدولة ذاتها، عبر سيناريو محكم، تشابكت تفاصيله، وتنوعت حلقاته وتعددت أبطاله.
رغم أن ما جرى لم يكن تلقائيا وتم الإعداد له بدقة، إلا أن غالبية المشاركين الذين توافدوا إلى الشوارع، كان خروجهم عفويا تلقائيا، بعد أن صار كل شىء مهيأ للانفجار، فلولا وجود دوافع حقيقية، وأسباب موضوعية حفزت غالبية المصريين ما خرجوا إلى الشوارع، لإسقاط «حسنى مبارك» أيضا، لولا تلك الملايين التى منحت الغليان الشعبى مشروعيته، ما استطاع المتربصون والانتهازيون ركوب الموجة لتنفيذ مرامٍ مشبوهة، بما يعنى أن الرغبة فى تغيير الأوضاع كانت خيارا شعبيا بامتياز، أما استثمارها فكان مخططا شيطانيا بجدارة.
الواقع على الأرض لا يكذب ولا يتجمل، فهو مرئى وملموس من الكافة، سواء من المنحازين والمؤيدين لما حدث أو الرافضين له، وغيرهم ممن اختاروا الوقوف فى المنطقة الضبابية، التى يطلق عليها «البين بين»، وهؤلاء – أقصد الفئة الأخيرةـ لا يمكن الاستهانة بمواقفهم ورؤاهم، لأنهم يمثلون، فعليا، شريحة كبيرة من مكونات المجتمع المصرى، ممن أرادوا التغيير وأصروا على رحيل نظام مبارك، لكنهم فى ذات الوقت يأملون فى الاستقرار ورفض الدعوات الرامية لاستمرار الصخب، وإرباك الدولة، ومحاولات نشر الفوضى فى أرجاء البلاد، فهذا الواقع إن شئنا الدقة كفيل لتقديم الإجابة، الشافية، الكافية، عن التساؤلات المطروحة، هل هى ثورة أو مؤامرة؟ دون عناء فى استدعاء المشاهد، ودون مشقة فى رصد الوقائع، خاصة أن تداعيات الأحداث كشفت بجلاء عن الدوافع التى حركت الطوفان البشرى فى الميادين، والأيادى الخفية التى اختبأت فى أحشاء الرغبة النبيلة والمطالب المشروعة، وهيأت الأجواء لكل ما جرى.