بقلم – حسن شكري:
شغلت كثيرًا طوال السنوات التى أعقبت ثورات الخراب العربى ٢٥ يناير ٢٠١١ بقضية التنمية الاقتصادية فى بلادنا، بسياساتها المتضاربة ودروبها المتعارضة ومصيرها المجهول. وشغلت أكثر وأكثر بحقيقة الفشل الذى صادفته أغلب تجارب التنمية الاقتصادية فى البلدان التى أرادوا أن يتملقوا طموحها المشروع، فسموها بلدانًا نامية، وهى فى الأغلب إنما تكرّس التخلف والتبعية بشكل مستحدث.
ولقد تبينت أنه فيما وراء هذه النهاية الأليمة تكمن حقيقة بالغة الخطر هى ما حدث منذ نهاية العقدين الأخيرين فى القرن الماضى حتى ثورات الخراب العربى من إغراق الفكر الاقتصادى بصورة مذهلة بأكداس من المؤلفات النظرية تعالج التنمية الاقتصادية بالضرورة بمفهوم رأسمالى مبتكر، قد يكون مفهومًا متقدمًا عما كان، لكنه فى أغلب الأحوال مفهوم غير واقعى. ولقد يكشف عن جهد فكرى ممتاز، لكنه يحاكم الدول النامية من أرضية الرأسمالية المتقدمة. وللأسف الشديد، فلقد صارت هذه الكتابات هى السائدة فى البلدان النامية نفسها فى كل من الفكر والممارسة على السواء.
ولقد راعنى أن هذه الفكرة نفسها هى الغالبة عندنا، على الرغم من بعض الكتابات النادرة التى خرجت علينا أخيرًا. بيد أن هذه الكتابات بدورها قد شغلت نفسها بتفاصيل عملية التنمية الاقتصادية، بحيث صارت أقرب إلى تقديم مفهوم انتقائى، غالبًا ما ينعكس فى صورة وصفات صالحة للتطبيق. قد تكون هذه الوصفات سليمة بالفعل، ولكنها فى مجموعها لا تشكل مفهومًا نظريًا موحدًا، تنبعث منه بشكل طبيعى، وبحيث يكون هذا المفهوم هاديًا فى التطبيق لجوهر ما يجرى، وينبغى أن يجرى من ممارسات.
ولهذا بدأت فى محاولة لتصوير العمليات الموضوعية، تلك التى تقع بصورة مستقلة عن وعى وإرادة البشر، والتى تشكل فى مجموعها ما نسميه النمو الاقتصادى التاريخى. فابتداء من هذه العمليات الموضوعية أو ما يمكن أن نسميه آليات النمو يكون بوسعنا أن نشكل المفهوم الموضوعى أو المفهوم المادى لعملية التنمية الاقتصادية المنشودة.
ومن المؤكد أن أى محاولة لصياغة مفهوم نظرى موحّدة فى هذا الصدد، هى محاولة يمكن أن ترمى على الفور بالتبسيط المخلّ. فإذا كان صحيحًا أن كل بلد من بلاد التخلف يمثل وحدة تشكيلية واسعة من التكوينات الاقتصادية والاجتماعية، فكيف تكون الحال بالنسبة لهذه البلاد مجتمعة؟ إن أى بلد متخلف لا يماثل على الإطلاق أى بلد متخلف آخر. تلك حقيقة نبدأ منها، فلكل بلد متخلف خصوصيته المحددة، غير أنه فيما وراء هذا التنوع المفرط تجمع بين البلدان المتخلفة سمات عامة تسمح باستخلاص العمليات الموضوعية الجوهرية التى تشكل فى النهاية الاتجاه العام لحركتها التاريخية. من هنا، فلا ضير من المحاولة، ما دمنا لا نحاول بها أن نفرض على البلدان المتخلفة نموذجًا صارمًا للتخلف، ولا قالبًا جامدًا لوصفة أخرى للتنمية. ففى كل مجتمع يتطور الاقتصاد كعملية من عمليات التاريخ الطبيعى، أى إنه يتطور نتيجة للتطور التاريخى لقواه الإنتاجية وللعلاقات الاجتماعية بين القائمين بالإنتاج فيه. وتلك عملية تحكمها قوانين اقتصادية، ذات طبيعة موضوعية صارمة، إذ إنها تعمل بعيدًا عن وعى البشر، مستقلة عن إرادتهم، فلا يملكون إزاءها إلا السعى للكشف عنها أملًا فى استخدامها عندئذ لصالحهم. وهم فى الوقت نفسه لا يستطيعون أن يتجاهلوها، وإلا اضطرتهم إلى الاعتراف بوجودها بقسوة، وذلك من خلال ما يحدثه تجاهلها عادة من أخطاء فى التطبيق. ولقد بحثت بصفة خاصة فى التطور الذى يحدث فى القوى الإنتاجية، وهو تطور كانت له دائمًا انعكاساته الضرورية على البنيان الاجتماعى والسياسى، ومن ثم على أسلوب توزيع الثروة والدخول فى المجتمعات. وللدقة، فقد كان لأسلوب توزيع الثروة والدخول ولتطوير علاقات الإنتاج الاجتماعية هى الأخرى تأثير كبير على درجة تطور القوى المنتجة. وإنما ظل العامل الحاسم فى هذه العملية كلها هو ما يحدث بالفعل من تطور فى القوى الإنتاجية، أى القوى العاملة المنتجة.
وينسحب هذا الفكر على الفعل المتبادل بين الإنسان والطبيعة، ومن أجل الإشباع المطرد لحاجاته المتزايدة، يخلق الإنسان المجتمع. يخلق الإنسان بعمله مركبًا من العناصر والعوامل تشكل فى مجموعها القوى الإنتاجية الاجتماعية التى تجدد بدورها الإنتاجية الاجتماعية لفعل الإنسان فى الطبيعة، أى للعمل، ومن ثم فإنه بالإضافة إلى البيئة الطبيعية المعطاة، يخلق الإنسان بيئة اصطناعية مكملة. وهذا هو ما يُعرف بالتطور التصاعدى للقوى الإنتاجية التى تنمو عندئذ بصفة مستمرة من خلال عمليات الإنتاج، وتزيد بالتالى من قدرة المجتمع الكامنة على الإنتاج. ولهذا يقال إن الإنتاج يجرى فى ظروف يحددها التاريخ بصورة مستقلة عن وعى وإرادة البشر. إذ يبدأ الأفراد إنتاجهم بالقوى الإنتاجية الموجودة من قبل أن يوجدوا. وبالإضافة إلى ذلك يدخل الأفراد خلال عملية الإنتاج الاجتماعى فى علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، هى علاقات تتناسب مع الدرجة المعينة لتطور قواهم المنتجة المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج تلك الهيكل الاقتصادى للمجتمع، وهو الأساس الحقيقى الذى يقوم عليه هيكل قانونى وسياسى، تناسبه بالتالى أشكال محددة من الوعى الاجتماعى.
هكذا، فإن جوهر النمو فى كافة المجتمعات التى عرفتها الإنسانية حتى الآن، إنما يكمن في إمكانية زيادة العمل البشرى وانعكاس هذه الزيادة، وبالتالى على أسلوب توزيع واستخدام الناتج القومى أو الاجتماعى. فالنمو الاقتصادى يتحقق بفضل القيام بتوليفات جديدة لعوامل الإنتاج يكون من شأنها زيادة إنتاجية العمل. ومن ثم تزيد كمية المنتجات الموضوعة تحت تصرف المجتمع بصورة موازية لزيادة إنتاجية العمل، مع ما يستتبعه ذلك من تغيرات فى التوزيع فيما بين أفراد المجتمع. لذلك، فإن التأكيد هو على العمل والإنتاج.
لقد جرى تطوير القوى الإنتاجية فى تاريخ البشرية كلها عبر ثلاثة عصور اقترنت بثلاث ثورات.
أما الثورة الأولى فهى ثورة العصر الحجرى الجديد، وقد تميز هذا العصر بظهور المحاصيل وتربية الماشية ونشأة الحرف والتجارة، كما ظهرت فيه الأدوات المتخصصة كأدوات للعمل تستخدم كامتداد ليدى الإنسان. ولقد أدت هذه الثورة الأولى إلى إرساء الأرضية اللازمة للانتقال من الشكل المشاعى للمجتمعات إلى المجتمع الطبقى. وكان تقدمًا حاسمًا فى تاريخ البشرية.
وأما الثورة الثانية، فهى الثورة الصناعية، وتميز هذا العصر بالبدء فى الإنتاج الآلى الذى قفز من الصناعة اليدوية إلى الصناعة وفقا لخطوط الإنتاج. ولقد أدت هذه الثورة الثانية إلى تكوين المجتمع الرأسمالى وتطويره.
أما الثورة الثالثة والأخيرة، التى مرت وتمر بها البشرية، فهى الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة. وقد أفضت هذه الثورة إلى تكوين نظام شامل ممتلئ حيوية ونشاطًا، سمته الأساسية هى أن التطور العلمى أصبح أسرع من التطور التكنولوجى، أى التطبيقى، وأن هذا التطور التكنولوجى، أى التطبيقى، أسرع من تطور الإنتاج. وبذلك غدا العلم نفسه قوة إنتاجية مباشرة. ومن الممكن القول، طبقًا لهذا المسار الموجز المتطور العريض للقوى الإنتاجية، إن النمو الراهن فى أوسع تعريف له هو اجتياز تلك العصور وإنجاز تلك الثورات. ففى كل عصر من العصور الثلاثة تم تطوير كيفى للقوى الإنتاجية للمجتمعات. غير أن مثل هذا التطور إنما كان يعنى دائمًا نموًا حاسمًا فى إنتاجية العمل البشرى. فإنتاجية العمل هى العامل الحاسم فى قيام أو انهيار أى نظام اجتماعى، باعتبار أن النظام الذى يولد إنما يوفر دائمًا إنتاجية عمل تفوق ما يوفره النظام البائد بكثير. ومن ثم يتجسّد النمو الاقتصادى فى الزيادة المطردة فى قدرة الإنسان على الإنتاج أو فى تحقيق فائض من الثروات، أو ما يمكن أن نسميه إنتاج فائض اقتصادى متزايد. ومن ثم كشفت البشرية فى تاريخها الطويل عن آليات للنمو الاقتصادى أخذت شكل خطوات متعاقبة، وخاصة فى البداية.