فى مطلع الألفية الثانية تصدر مانشيت «الخائن الأعظم»، مصحوبا بصورة للزعيم الراحل أنور السادات، الصفحة الأولى لجريدة «العربى» الناصرية. وبتكرم من صاحبة لقب السيدة الأولى جيهان السادات، تنازلت عن حقها فى مقاضاة الصحيفة لتنهى أزمة سياسية كانت هى الأولى من نوعها. فتلك هى أول مرة يُتهم فيها رئيس حقق انتصارات عسكرية غير مسبوقة، حرر الأرض وجلب السلام بالخيانة العظمى.
شخصيا ذُهلت من تلك الجرأة التى لم أعتبرها من قبيل الشجاعة المهنية أو السياسية، وإنما نزق ومراهقة تبعهما سقطة بكل معانى الكلمة، رغم انتمائى لهذه الصحيفة واعتزازى بها، وإن لم أكن مؤدلجًا بتوجهها السياسي. اليوم وبعد نحو سبعة عشر عاما من تلك الواقعة، تعلن حركة «حماس» تخليها عما كانت تصفه بثوابت دينية ووطنية يعتقد فيها أيضا من خونوا السادات، وتؤكد اقتناعها بإقامة دولة فلسطينية على حدود ٤ يونيه ١٩٦٧، وهو ما يعنى اعترافها بدولة إسرائيل، بل والتفاوض معها والدخول فى عملية سياسية كبيرة من أجل إعلان الدولة الفلسطينية.
فى عرف الحنجوريين من الناصريين والإسلاميين التفاوض مع إسرائيل تطبيع، والاعتراف بوجودها خيانة عظمى، فهل يصدر الحنجوريون فى مصر حكمًا يقضى بثبوت الخيانة العظمى على الحركة التى طالما أيدوها حتى الثمالة ظالمة ومظلومة؟ إذا قبلوا بوثيقة حماس الجديدة، يصبح لازمًا عليهم الاعتذار عن الجرم الذى اقترفوه فى حق زعيم الحرب والسلام، وربما قد يكون عليهم أيضا أن يعترفوا برجاحة عقل الرجل عندما شرع فى الإصلاحات الاقتصادية الشهيرة عام ١٩٧٧، بتحريك أسعار بعض السلع لما قيمته قرش وأقل، لأن الانتفاضة التى نفخوا فيها الكير استغلالا لغضب البسطاء، جعلتنا اليوم نتحمل فاتورة تأجيل تلك الإصلاحات التى كان لا بد منها فى حينها، والتى وجد الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه ملزما بتطبيقها من وازع ضميره الوطنى ووعيه بحجم المشكلة، وقرر أن يشرع فيها ولو كان ذلك على حساب شعبيته. السيسى أكد فى غير مناسبة، أن إصلاح الاقتصاد المصرى بدأ فى عام ١٩٧٧، وهو ما يؤكد رسوخ هذه الحقيقة وعزمه على المضى فى ضوئها.. أعود إلى وثيقة حماس التى جاءت لتؤكد أن قادة هذه الحركة يتعاملون وفق مقتضيات الواقعية السياسية، فشعارات من قبيل «سنلقى بإسرائيل إلى البحر»، و«سندمرها عن بكرة أبيها».. لم تعد مقبولة فى عالمنا، بل وفقدت قدرتها على إقناع الجماهير، وبحسب أرشيف «حماس»، فهذه ليست المرة الأولى التى تعترف فيها الحركة الإسلامية الراديكالية بحدود ٤ يونيه ١٩٦٧. فقد سبق وأن أعلن زعيم الحركة الشيخ أحمد يس عام ١٩٩٧، استعداده لهدنة طويلة مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة حتى حدود ٤ حزيران، وبعد مقتله عام ٢٠٠٤ جدد رئيس المكتب السياسي خالد مشعل الطرح ذاته. أضف إلى ذلك عدم الإشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية فى وثيقة المبادئ السياسية الجديدة، كتنظيم تنتمى إليه حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، وأظن أن هذا التنصل يتفق ومنطق الواقعية السياسية أيضا، ذلك أن جنرالات حماس باتو يدركون أن التنظيم قد سقط فى مصر، وربما للأبد، ومن ثم ليس هناك مصلحة لمعاداة الدولة المصرية الجارة. ويشار فى هذا السياق، أن مصر قد ضيقت الخناق على الحركة خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى تتخلى عن دعم المنظمات الإرهابية الموجودة فى سيناء عبر الأنفاق.
ومع ذلك لا ينبغى أن نثق تماما فى أن تحولًا دراماتيكيًا قد حدث فى بنية حماس الفكرية والسياسية، فالإسلاميون بطبعهم يجيدون فنون الخديعة، هذا الحذر مرده أن حماس التى باتت تعترف بإسرائيل ضمنيا لا تزال فى صراع محموم مع حركة «فتح»، ولا تزال عناصرها الأمنية تشن حملات الاعتقال ضد قادة فتح فى قطاع غزة، بزعم تعاونهم مع السلطات الإسرائيلية، وعلينا أن ننتظر حتى نرى خطوات جادة نحو المصالحة الفلسطينية، وأخرى بتحجيم نشاط الحركات الإرهابية داخل غزة.