لي مع عمنا صلاح جاهين قصة.. محزنة طبعا. كنت وقتها متدربا في مجلة صباح الخير في الفترة ما بين عامي 84- 87 وإن استمرت بعد ذلك، رغم أنني لم أكمل العمل بها، ولم أعين في المجلة (شأني شأن محمود الكردوسي .. فيما صمد زميلنا جميل كراس صمودا بطوليا، فقد استحق التعيين بعد خروجنا فعليًا من المجلة بنحو 10سنوات!) بعكس زملائنا الذين كان لهم حظوة أخري، آباؤهم صحفيون وأقاربهم إداريون بالمؤسسة! ما جعل أبواب المؤسسة (روزا اليوسف) مفتوحة لهم!
كنت «بعافر» وبحفر في الصخر من أجل فرصة، وذات يوم اتصلت بالتليفون الأرضي -من كشك بالشارع كان مقاما أمام المؤسسة – بالكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي باعتباره -والعم الجميل صلاح حافظ- من أقطاب روزا الذين حققوا نجاحات هائلة في روزا.. واتصلت كذلك بعمنا صلاح جاهين.
الأستاذ الشرقاوي شكاني للأستاذ لويس جريس الذي انّبَّني على اتصالي بالأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي لإجراء حوار معه، لم أتفق عليه مع أحد من مسئولي المجلة، كما أضاف قائلًا: أنه من كتاب المؤسسة ويمكنه الكتابة أنى شاء.
كنت شديد الحرج لأنني استخدمت اسم صباح الخير لأجري الحوار مع الشرقاوي وجاهين.. للنشر ليس في مجلتنا وإنما في صحف عربية كنت بدأت العمل بها (الخليج الإماراتية -أحمد الجمال، الأنباء الكويتية- جميل الباجوري)، وفقا لقاعدة الأستاذ لويس جريس؛ «اصرف على الصحافة تصرف عليك»!
ضيق الشرقاوي قابله ترحيب عم صلاح جاهين.. (هو كدة كدة عنده ضعف تجاه صباح الخير، وكمان الولاد الجداد اللي بيشقوا طريقهم زيي) التقاني في بيته، في غرفة فارغة من الأثاث إلا من مكتب ومكتبة وكرسيين، وبدا لافتًا وضع سلة القمامة الصغيرة على الحائط المجاور له.
كان يرتدي الروب الأزرق الكاروهات. ولكنه لم يبتسم. بدأ حوارنا عاديا.. واعترف أنني ذهبت إليه غير مسلح، كما هي عادتي سابقًا ولاحقًا. فلم يكن الحوار من علامات حياتي المهنية. فيما بعد أدركت ما الذي فوَّته. كان عم صلاح حزينا وشاحبا وبدينا وبطيء الحركة وفقد الرغبة في الضحك والابتسام.
بعد يومين ذهبت إلى المجلة، وكان الحوار مع جاهين قد نشر في جريدة ثالثة هي الرأي العام الكويتية (كانت مملوكة للعميد عبد العزيز المساعيد – والمكتب يديره المرحوم سعيد مصطفى، وهكذا شاء الله لي أن يكون هذا هو حواره الأخير، وأن أكون أنا صاحب آخر حوار معه). علمت أن العم صلاح جاهين مات والدنيا مقلوبة والمجلة بقيادة الأستاذ لويس مجتمعة لإصدار عدد تذكاري عن مؤسسها صلاح جاهين. واقترحت أن أكتب للمجلة موضوعا من قلب جنازة العم صلاح .
وافق الأستاذ لويس بعد فترة، ولكن كان الوقت قد فات، لأنني لم أتمكن من اللحاق بالجنازة، فقررت أن أحصل على شهادات ممن دعوا العم صلاح وشاركوا في الجنازة. وتحدثت مع أصدقاء للعم صلاح ومنهم الفنان هاني شنودة الذي قال لي جملة صادمة!
كتبت الموضوع ودفعت به إلى الأستاذ لويس لكنه لم ينشر! استغربت فما يقوله هاني شنودة كان لابد من الناحية الصحفية ينشر على الغلاف!
رفض الأستاذ لويس جريس رئيس التحرير نشر الموضوع، لأن هاني شنودة قال بما يشبه الثقة: صلاح ما ماتش.. صلاح انتحر!
سألته: كيف يا استاذ هاني؟
قال: تناول كمية أدوية لعلاج الاكتئاب، لكنها نحرته.. أودت بحياته!
كان هذا كافيًا ليرفض الأستاذ لويس أن يغلق الناس صفحة عمنا جاهين على هذه النهاية الصادمة: (صلاح جاهين مات منتحرا) فالرجل ملأ الدنيا كلها غناء وشعرا ونثرا وفنا وعرائس وسياسة وصحافة وكاريكاتير.. هو صاحب ملايين الشعب تدق الكعب تقول كلنا جاهزين، هو صاحب الليلة الكبيرة أروع أوبريت عرائس قدم حتى اليوم.. هو صاحب أشهر أغاني ثورة يوليو، هو الذي قال في عبد الناصر مالم يقله شاعر، وكتب أروع أغاني تمجده وتمجد الثورة ومنها صورة، وبالأحضان ويا أهلا بالمعارك، وهو نفسه انكسرت كل أحلامه في 67، وبعدها دخل في مرحلة اكتئاب. ثم وهو ينزف كتب لسعاد حسني خللي بالك من زوزو، وألف لها أشعر وأشهر أغانيها «بمبي». وهو الذي أعلن بعد ذلك أنه استيقظ على وهم بعد النكسة، وأيد التطبيع ومعاهدة السلام مع إسرائيل.
ولذلك فإن حزب التجمع برئاسة خالد محيي الدين عضو مجلس الثورة نعاه بطريقة غريبة جدا: ينعي حزب التجمع الكاتب والفنان صلاح جاهين 25 ديسمبر 1930- 5 يونيو 1967، رغم أن صلاح جاهين رحل في 21 أبريل 1986، أي أن التجمع اسقط من فترة حياته هذه السنوات التي أنقلب فيها على ثورة يوليو ودافع عن أنور السادات وسياساته .
السلام لروحك يا عمنا الجميل، ونهرنا الذي ننهل منه شعراء وكتابا ومبدعين حتى الآن.
السلام لروح أحد أعظم من أنجبته مصر.. لترقد في سلام وخلود .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية