في مثل هذه الأيام قبل اثنين وعشرين عامًا رحل عن عالمنا آخر عمالقة الوفد – فؤاد باشا سراج الدين. الذي كان يتمتع بشخصية وقدرات وملكات سياسية بارزة، جعلته جزءاً من التاريخ السياسي ففي مصر لحوالي سبعة عقود كاملة، بعد أن دخل عالم السياسة في سن مبكرة.
وشغل عدة مناصب وزارية وهو في بداية الثلاثين من عمره عندما تولى حقيبة وزارة الزراعة في مارس عام 1942، ثم وزارات الداخلية والمواصلات والمالية، وتولى بالإنابة وزارات الصحة والعدل والمعارف، وكانت آخر وزارة تولاها في يناير 1950 هي وزارة الداخلية حتى أقيلت حكومة الوفد في 1952 بسبب حادث من ثلاثة فصول، بدأ بالمعركة الباسلة لقوات الشرطة المصرية في مواجهة قوات الاحتلال الإنجليزي بالإسماعيلية يوم 25 يناير 1952 والتي تحتفل بها مصر عيدًا سنويًا لجهاز الشرطة.
وفى اليوم الثاني تم تدبير حريق القاهرة وفى اليوم الثالث كان الفصل الأخير بإقالة حكومة الوفد يوم 27 يناير 1952، وكانت بسبب دعم الوفد لحركة الفدائيين في مدن القناة ضد القوات الإنجليزية بعد إلغاء النحاس باشا وحكومة الوفد معاهدة 1936.
كان فؤاد سراج الدين يتمتع بصلابة شديدة في مواجهة كل المصاعب والأزمات إلى حد أنه اعتقل ثماني مرات ورفض تقديم التماس واحد للعفو عنه، وكان يقضى الشهور والسنوات في السجن بصلابة، وبعد الإفراج عنه يبقى شامخًا إلى حد أن خصومه السياسيين كانوا في شغف لمعرفة سر هذه الصلابة رغم الاعتقالات المتكررة ومصادرة كل أملاكه والتضييق عليه، ولم يدركوا أن وطنية فؤاد سراج الدين ونزاهته السياسية والمالية في كل المواقع التي شغلها هي سر صلابته وشموخه.
وكان أحمد أنور مدير البوليس الحربى بعد ثورة 1952 أحد أصدقائه المقربين، وكان كثيرًا ما يداعبه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بأنه صديق فؤاد باشا، ويرد عليه أحمد أنور قائلاً – نعم هو صديقي وإذا ارتكب خطأ اعتبرني المسئول عنه – وبعد وقوع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بسبب تأميم قناة السويس، استدعى الرئيس جمال عبدالناصر أحمد أنور مدير البوليس الحربى، وسأله عن أسوأ الفروض، وقال الرئيس نمشى؟ تنتهي الثورة؟ ينتهي نظامنا؟ فليكن، من الذي يأتي بعدنا فؤاد سراج الدين، أنا واثق أن وطنيته لن تسمح له أن يعيد القناة إلى الشركة الأجنبية – ورد عليه أحمد أنور قائلاً يا ريس – أنتم مش فاهمين الراجل ده.. ده نظيف ووطني.
وذهب أحمد أنور إلى فؤاد سراج الدين في منزله، وسأله إذا كانوا يستطيعون أن يختبئوا في منزله إذا دخل الإنجليز والفرنسيون القاهرة، إلى أن يتمكنوا من إعادة تنظيم أنفسهم وبدء المقاومة، ورد عليه فؤاد سراج الدين قائلاً.. وهل هذا يحتاج إلى سؤال.. من الآن تعالوا.. ولكن إن شاء الله سيحفظ الله مصر من كل سوء ولن يحدث شيء من هذا أبدًا.
الحديث عن شخصية ومواقف وتاريخ فؤاد سراج الدين يطول، ولكن أتذكر أول لقاء معه عام 1984 وكنت برفقة المرحوم مصطفى عبدالعزيز النحاس ابن شقيق النحاس باشا، وكنت ما زلت طالباً بالجامعة وجلست أستمع إليه من حضور إبراهيم باشا فرج وعدد من قيادات الوفد، وتدخلت في الحديث باندفاع الشباب، ولامني الحضور.
ولكن فؤاد باشا بشخصيه وملكاته السياسية وقدرته على التعامل مع كل الشخصيات والأعمار والتوجهات السياسية المختلفة واستيعابها، قاطعهم وقال لهم: أريد أن أسمعه، وتوطدت علاقتي به بشكل يومي خاصة بعد العمل صحفيًا بالجريدة ولم يبخل علىّ بنصيحة سياسية أو حتى اجتماعية حتى يوم رحيله، وصحح لي كثيراً من الأخطاء التاريخية حتى وإن كانت تنصف خصومه السياسيين.. رحم الله هذا الزعيم الوطني.
حمى الله مصر
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية