لا يكتمل صيام الصائم ولا يتم إلا إذا وافق مظهره جوهره، وأحدث فيه هذا الصيام الأثر المطلوب، وتحسنت أخلاق العبد، وارتقت إلى المستوى الذي يهدف إليه الصيام.
فما أسماه الدعاة الوجدانيات نسميه نحن الأخلاقيات، وليس من سبيل التكرار أن نؤكد على أن الصوم الذي يحرم صاحبه من الحلال المادي، ولكنه يفطر على الحرام المعنوي ليس بصيام صحيح، فما فائدة أن تمنع نفسك عن الطعام والشراب وأنت تنال من هذا وذاك مرة بالغيبة والنميمة، ومرة أخرى بالسب والشتم والكذب والمداهنة والنفاق، وشهادة الزور، وكل هذا مما يفسد الصيام، ويجعله من شكل أداء فريضة مكتملة الأركان تامة المعاني، إلى تعذيب للنفس بحرمانها مما أحل الله في أوقات غير نهار رمضان.
ولقد ورد لنا عن رسول الله صل الله عليه وسلم أن الصحابة قالوا له إن فلانة يعرف عنها ما يعرف من صلاتها وصيامها وزكاتها والتزامها قواعد الدين، غير أنها تؤذي جيرانها، فكان رد الرسول عليهم حاسما قاطعا «هي في النار» لم يشفع لهذه المرأة كثرة صيامها ولا صلاتها، في مقابل خلق إسلامي عظيم أمرنا الله به وهو حسن معاملة الجار فكان المصير الذي آلت إليه بوعد رسول الله صل الله عليه وسلم أنها في النار، مالم تغير من تعاملها وتحسن من أخلاقها وتتوب عما تقوم به.
كما والشيء بالشيء يذكر فإن المرأة التي ذكروها له من قلة صيامها وصلاتها، غير أنها تحسن إلى جيرانها ولا تؤذي أحدا وتتصدق بالأقط «وهو الشيء اليسير» كان مآلها كما وعد المصطفى الجنة.
ذلك هو حقيقة الإسلام وجوهره، والهدف من العبادات، ليس حركات نؤديها ولا جهد نبذله، ولا أموال ننفقها فنتبعها بالمن والأذى فتتحول إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فتنفق المال فيتحول نقمة عليك، لا مزية لك.
وقد لفتني تلك اللطيفة لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، حيث يقول الصوم في الإسلام عبادة سلبية؛ بمعنى أنها إمساك مطلق عن عدة شهوات نفسية في اليوم كله لمدة شهر معيَّن؛ فليس فيها عمل ظاهر للجوارح كأعمال الصلاة وأعمال الحج مثلاً.
ولكن آثار الصوم في النفوس جليلة، وفِيْهِ من الحكم أنه قمع للقوى الشهوانية في الإنسان، وأنه تنمية للإرادة، وتدريب على التحكم في نوازع النفس، وهو في جملته امتحان سنوي يؤدِّيه المسلم بين يدي ربِّه، والنجاح في هذا الامتحان يكون بأداء الصوم على وجهه الكامل المشروع، ولكن درجة النجاح لا يعلمها إلا الله؛ لتوقف الأمر فيه على أشياء خفية لا تظهر للناس، ومنها الإخلاص، ولذا فإن الله أسند المثوبة على الصوم له وحده فقد قال: ((الصوم لي وأنا أجزي به)).
شهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زماني تعالج فيه النفوس من النقائص التي تراكمت عليها في جميع الشهور من السنة، ومكَّن لها الاسترسال في الشهوات التي يغري بها الإمكان والوُجْد، فيداويها هذا الشهر بالفطام والحِمْية، والحيلولة بين الصائم وبين أهواءه وغرائزه.
ولكنَّ هذه الأشفيةَ كلَّها لا تنفع إلا بالقصد والاعتدال.
لو اتَّبع الناس أوامر ربِّهم، ووقفوا عند حدوده لصلحت الأرض، وسَعُد مَنْ عليها، ولكنهم اتبعوا أهواءهم ففسدوا، وأفسدوا في الأرض وشقوا، وأشقوا الناس.
فما فرض الله شيئا إلا لراحة خلقه وامتاعهم، وتزكية نفوسهم، ولنصل مع نهاية شهر الصوم إلى التقوى التي هي جماع الخير كله.
وللحديث صلة غدا بمشيئة الله تعالى
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأ خبار المحلية