وسط حالة من التوتر الإقليمي، والتحديات المتصاعدة في الملف الفلسطيني، تطل علينا ما تُسمى بـ«قافلة الصمود» في مشهد يثير القلق أكثر مما يبعث على التضامن.
فبينما تنزف غزة، وتُباد العائلات تحت ركام بيوتها، تتحرك قافلة سياسية ذات طابع استعراضي، بزخم إعلامي ضخم، وتغطية من منصات تُعرف بارتباطها بجماعة الإخوان، وبدلاً من أن تتجه القافلة إلى حيث ينبغي – إلى غزة مباشرة عبر أقصر الطرق – نراها تنحرف جغرافيًا وسياسيًا في اتجاهات مشبوهة، تحمل بين طياتها نوايا لا يمكن فصلها عن أجندات الخراب.
المنطق يقول: من تونس إلى غزة، المسار معروف، لكن القافلة اختارت العبور عبر البحر، ثم التنقل من بلد إلى آخر، تُثير الأزمات، وتفتعل الاحتكاكات، وتُطلق البيانات والتصريحات الاستفزازية.
وكأن الهدف الحقيقي لم يكن غزة، بل خلق نقاط توتر في الداخل العربي، وإشعال معارك وهمية باسم «الحرية»، بأسلوب بات مكشوفًا لدى كل من عاش مشاهد ما بعد 2011.. أي تضامن هذا الذي يُستغل لإرباك الدول؟ أي «قضية» تُنصر عبر إرباك العواصم العربية، واستفزاز الحكومات، وتحريض الشعوب؟
لم يعد خافيًا على أحد أن هذه القافلة تحركها خيوط الإخوان المسلمين، التنظيم الدولي الذي اعتاد ركوب الموجات الثورية وتوظيف القضايا العادلة لتمرير مشاريعه الظلامية.
نفس الشعارات، نفس الأساليب، تخوين الأنظمة الوطنية، تشويه الجيوش، تصوير الدولة كخصم، وتقديم أنفسهم كـ «مقاومة بديلة»، وهم لم يُطلقوا رصاصة واحدة على الاحتلال منذ نشأتهم!
اليوم، هذه الجماعة، بأذرعها الإعلامية والتنظيمية، تُحاول من جديد أن تصنع «هالة نضالية» وهمية عبر قافلة يُراد لها أن تفجّر الداخل العربي من باب غزة.
الحقيقة أن الشعب العربي لم يعد «مغفلاً»، لقد فهم اللعبة، وحفظ الأدوار، وأدرك أن جماعة الإخوان لا تخدم إلا مشروعًا واحدًا «تمزيق الدول من الداخل، وتشتيت الصفوف خدمة لأعداء الأمة».
بعيدًا عن النوايا المعلنة، وبالرجوع إلى نتائج التحركات السابقة، يتضح بجلاء أن القوافل التي تشبه «قافلة الصمود» لم تحقق يومًا مكاسب تُذكر للقضية الفلسطينية. بل على العكس «أضعفت الإجماع العربي، وقدّمت صورة فوضوية للعالم، وأعطت إسرائيل مادة دعائية جاهزة «العرب منقسمون، مشتبكون، يتقاتلون باسم غزة ولا يصلون إليها».
وإن كان هناك من يُصفّق لهذه القوافل خلف الستار، فليسوا سوى المسؤولين في تل أبيب، الذين يرون بأعينهم كيف يتحوّل اسم فلسطين إلى أداة فوضى بدل أن يبقى راية مقاومة حقيقية.
غزة ليست بوابة للعبور السياسي، غزة ليست لافتة ترفعها جماعة مرفوضة شعبيًا لتعود إلى المشهد من بوابة العواطف، غزة لا تحتاج إلى قوافل تجوب العواصم.. بل تحتاج إلى دعم حقيقي، موحد، منظم، تحت راية الدول لا التنظيمات، تحت لواء الشرعية لا الفوضى، وبحسابات العقل لا بهوس الثورة المفتعلة.
فلسطين لا يمكن تحريرها عبر الصراخ على شاشات الإخوان، ولا عبر حركات استعراضية في موانئ البحر الأبيض.
تحرير فلسطين يبدأ بتحرير الخطاب العربي من التوظيف، وتحرير العقول من التضليل، وتحرير الشارع من اختراق التنظيمات العابرة للأوطان.
»قافلة الصمود» ليست أكثر من قارب هارب من مأزق سياسي داخلي، يبحث عن دور مفقود، عبر ركوب موجة عاطفية.. لكن الشعوب التي دفعت ثمن المغامرات سابقًا.. لن تسمح بتكرارها، ولن يُخدع أحد مرتين باسم «فلسطين».