فى فوضى العيش فى المدن العربية، صورة أخرى للأفعال المشينة التى خلفتها عصور الانحطاط السياسى، فى العقود الفائتة، وفشل التنمية فى إحداث النقلة الكبرى التى حدثت فى مناطق أخرى من العالم حين كانت أقل أهمية من منطقتنا، والتى تجد من دون شك هناك من يدافع عنها، تحت ذريعة الظروف والتحديات التى صارت لوازم يعزف على نوتتها الكثير من المحللين المزورين للتاريخ، والجغرافيا معًا.
صارت المدن العربية القديمة فوضى، بل نثار طريق، تعانى من مكبات النفايات وتدوير مخرجاتها اليومية التى امتدت للمياه الجارية فى الأنهر مصدر الثروة الرئيس للكثير من بلداننا، نتيجة الإهمال الطويل لها، والتهاء الفعاليات عنها وكأنها تُعاقب هى الأخرى مثل عقاب سكانها الأصليين، الذين ابتلوا بالوافدين الهاربين من جور التخلف المروع لأريافهم وغيطانهم ومحافظاتهم التى ما زالت فى القرن الماضى وكأن الزمن قد توقف وأسدلت الستائر عليها فى مسرح العبث الذى رافق العقود الثلاثة التى خلت، نتيجة الالتهاء القسرى للحكومات والسلطات بمهمة تثبيت بقاء وجودها، لا التفكير الجدى فى التطور الحاصل فى العالم، والأنكى أن الكثير من الألسنة الطويلة، وجدت فى الحل الفردى مسربًا بدل الحل الجماعى، والهرب إلى أوطان جاهزة وبقيت الأوطان الرئيسة مسرحًا للفرجة وممارسة لعبة التشفى دون حلول، أرهقت الأنظمة والحكومات، وتمكن الجهل والفقر وتسرب الكفاءات وانحسار الخدمات علامات ضغط على حياة الناس وصراخهم، ولوعتهم وعيشهم المتدنى، وفقدان بوارق الآمال بحلول ناجعة فى ظل وتيرة التراجعات التى يشهدها العالم العربى، الذى رفعت عنه ستارة الآخر القريب والبعيد، عبر الإنترنت والفضاء المفتوح، والتواصل اللحظوى والانتقال بسرعة البرق وتحول العالم إلى شاشة وليس قرية إلكترونية صغيرة فحسب كما كان يبشر به عالم الاتصال مرشال ماكلوهان، مطلع ستينيات القرن الماضى، وهذا إن كان فيه منافع المعرفة وكشف الحجب، لكنه يضغط على الأنفس التى تقارن بين العيش هنا، وهناك وإذا كان لا بد من أن تتباين الناس والمدن، والمعالم، وتختلف أمزجة الثقافات وتنعكس على الجدران والحيطان القديمة، ويفرح أو يحزن الإنسان بتلاوين المكان وتباين الناس والطقوس والعادات والأزمان، لا أحد يقدر أن يحصى دقات القلوب للعابرين تلك الشوارع التى مرت بها والأقدام الراحلة من الشمال للجنوب.
ففى الشوارع كل شىء مباح للتعبير عن كنه الأشياء، فى الأقوال والأفعال، وفى زفرات المتعبين والحالمين والعابثين والقانطين والمتلفعين، وفى المجهول وتواريخ وأسماء، وكتابات على الجدران ولافتات تمجد وأخرى تصعد وغيرها تشتم الحكام والمحكومين، لكن بعض الشوارع بسمعة أبطالها، إنها فوضى عدم التحكم بمنطق عقلانى، يشى أن المدن العربية صارت مسرحا للعبث، للأسف نتيجة اكتفاء مهندسيها ومعمارييها ومثقفيها بالتفرج على الخراب وكأنه لوحة من سيناغرافيا من مسرح التراجع الحضارى والمدنى الذى أصاب الكثير من مدننا التى كانت أفضل فى الستينيات والسبعينيات، نتيجة الضبط الاجتماعى والحكومى حينها وانعدام الفوضى، والتزام الناس بقواعد السلوك والآداب العامة.
فكانت الشوارع واحات أمان بل ينسى الكثير من الناس إن كانوا قد أغلقوا أبواب بيوتهم بإحكام قبل نومهم.
تساؤلات كثيرة ومحيرة تفرض على المختصين من علماء الاتصال الجماهيرى والنفس والعلوم الاجتماعية وعلوم السياسة وكل العلوم السلوكية أن يجيبوا عليها: ما الذى أوصل مجتمعاتنا إلى هذه الأزمة؟! ولماذا تتعقد؟ وكيف تعالج؟ وهل هناك استراتيجيات للحل؟ ومن يوضعها وينفذها؟ ولماذا ترمى مسئولية الواقع الجديد بكل محصلاته على الحكومات وحدها؟ دون شراكة مؤسسات العلوم والجامعات والمعاهد ذات الاختصاص؟ فى تحمل وزر الحلول والأطر لها.
فلا بد من استنهاض الهمم كى نغادر محطة الأزمة وتفكيكها بعد دراستها بصدق وبشجاعة.
وعلينا أن ندرك أن ترك المشكلة لا يحلها بل يعقدها، تحت عامل ضاغط ولن يعوض وهو الزمن، الإكسير القاهر الذى لن يتكرر حين تحل ساعة مسعى الفكاك من الأزمة دون جدوى.