الأرض لم تعد تحتمل هؤلاء الذين قالوا: «سنخرج من غزة.. إلى السماء»، فنادتهم السماء: «هلمّ إلينا.. فلستم بحاجةً لكتابة أسمائكم على أجسادكم.. أبناء غزة: رجالاً ونساء.. أطفالاً وأجنة في بطون أمهاتكم.. هلمّ إلينا.. فأنتم إن شاء الله في سجل الشهداء الأبرار الأطهار».
هذا النداء أدركه قلبي وسمعته أذني وأبصرته عيني يتردد في الآفاق ملازماً أصوات القنابل والصواريخ التي تطوف أرجاء «غزة».. فيتساقط الشهداء.. وتتمزق جلودهم.. وتتقطع أجسادهم.. وتحترق أطفالهم ونساءهم.. وتزهق أرواحهم تحت الأنقاض.. ويذهب الجميع إلى مقابر جماعية يومية في مشهد صرخ له الحجر والشجر، وصمت أمامه البشر.. إنها ملامح استدعاء «غضب السماء» لإهلاك الصامتين منا قبل المجرمين القاتلين.
نتأمل قول الله تعالي في سورة هود الآية 117: «وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون»، ولم يقل صالحون، وهناك فارق كبير بين الإثنين فالأول صلاحه لنفسه والثاني يعم صلاحه غيره، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقابه»
«إنها دموع إنسانية.. لا دموع جبن وانهيار.. فليخسأ الاحتلال»، تدفقت هذه الطلقات النضالية من الإعلامي الفلسطيني وائل الدحدوح مدير مكتب الجزيرة في غزة حينما جاءه -وهو ينقل على الهواء تفاصيل القصف الصهيوني لغزة، مساء أمس -خبر استشهاد عائلته تحت أنقاض مباني سكنية تقصفها طائرات الصهاينة الملاعين (زوجته وابنه محمود 16 عاماً وابنته شام ذات الأعوام الستة وحفيده آدم المولود قبل 45 يوماً)، لتنضم عائلته إلى قائمة 6546 شهيدا معظمهم نساء وأطفال حسب بيانات وزارة الصحة في قطاع غزة.
وخلال الأيام الماضية، نشر كثير من الشهداء الأبرار- نحسبهم كذلك عند الله- وصاياهم قبل استشهادهم عبر منصة إكس (تويتر سابقا) قائلين: «سنخرج من غزة إلى السماء»، ومنهم الصحفي والمصور حسام سالم الذي كتب عبر حسابه على منصة إكس أنه سيخرج «من غزة.. إلى السماء».
وها هي الطفلة الفلسطينية هيا تكتب: «مرحبا أنا هيا وسأكتب وصيتي الآن. نقودي 45 شيكلاً، لماما 5 و5 لزينة و5 لهاشم و5 لتيتا، و5 لخالتو هبة، و5 لخالتو مريم، و5 لخالو عبود، و5 لخالتو سارة. ألعابي وجميع أغراضي لصديقاتي زينة، منى، ديما، أمل. ملابس لبنات عمي إذا تبقت أي شيء تبرعوا به. أحذيتي تبرعوا بها للفقراء والمساكين بعد غسلها طبعا».
انتهت وصية الطفلة هيا – فما هي وصيتنا الآن؟ – حتى الأطفال لم نستطع أن نكون مثلهم- سحقاً لنا جميعاً؛ فأطفالنا يكتبون أسمائهم على أرجلهم حتى يتعرف عليهم أهلهم وذويهم بعد أن تسحقهم قنابل وصواريخ الصهاينة المجرمين.
دفعتني المشاهد المتلاحقة لإبادة «غزة» والفلسطينيين، لأتساءل عن عدد الشهداء الذي تم الاتفاق عليه مع الصهاينة لوقف هذه المحرقة؟ وكم هو العدد الذي ينتظره المسلمون والعرب- قادة وشعوب- للقيام بفعل حقيقي على الأرض؟ وكم هو العدد المطلوب لإنزال غضب الله علينا؟
اغضبوا قبل أن يغضب الله علينا.. فهل سنغضب حقاً؟ أم أن الغضب لم يعد ممكناً؛ وصار العجز هو عنواننا؟
لقد رفع الصهاينة شعار «نظفوا الأرض من المسلمين الصادقين»، ويشاركهم هذا الإجرام كل صامت منا، وذلك في مشهد يشابه القرى والأقوام السابقة في الأزمان الغابرة الذين ورد ذكرهم وعقاب الله لهم كما في سورة النمل الآية 14: «فانظر كيف كان عاقبة المفسدين»، وفي سورة الأنفال الآية 25: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب».
ماذا حدث لنا؟ وكيف صار قتل أهلنا وتدمير بلادنا خبزاً مراً نتذوقه جميعاً على أنه ضرورة لاستمرار حياتنا؟!.. فلننتفض ولنغضب لنبرأ صحيفتنا أمام ربنا.. اللهم إني اشهدك أني مع غزة وأهلها، وأني ضد الصهاينة وحلفائهم.. اللهم إني أبرأ إليك من كل من صمت عن الدفاع عن أهل غزة والفلسطينيين والمسلمين في كل مكان وزمان.
يا بلادنا العربية: كم عملية عسكرية وأمنية تم توجيهها لبعض منا، وصارت تاريخاً من الأمجاد التي دوناها مفتخرين بالقضاء على الإرهابيين والمتآمرين علينا، ولن أناقش هنا صحة هذه العمليات كلها أو بعضها.
وسيراً على إنجازاتنا الوطنية والدينية، أين إنجازاتنا أمام إزهاق أرواح الأبرياء في غزة- الجريمة المفروض شرعاً وخلقاً وإنسانياً إيقافها ومعاقبة فاعليها على الفور- بل، أين قوتنا التي دخلت تصنيفات عالمية ضمن الجيوش الأعلى استعداداً، وتدريباً، وقوة وعتاداً؟ وما هي نتائج صفقات تسليح الجيوش العربية التي تقدر بتريليونات الدولارات وتم إنفاقها لدرء المخاطر؟
إننا ملئنا الدنيا ضجيجاً وصراخاً عن حماية الأوطان، والدفاع عن الحقوق في أي مكان، وجهزنا الجيوش وسيرنا الطائرات، وأطلقنا القاذفات للقضاء على الجماعات (الإرهابية) خلال الكثير من السنوات رافعين شعارات: لا للإرهاب.. لا للتنظيمات.. لا لتهديد الاستقرار.. فأين «لاءتنا» من تدمير غزة واغتيال شعبها، وتدنيس الأقصى، واحتلال القدس وفلسطين؟
لقد اختلفت المفاهيم والتبس على الناس الكثير من المعاني، فصار المصلح (إرهابياً)، وصاحب العقيدة (متطرفاً)، والشهيد (قتيلاً وميتاً)، والمدافع عن الحق (مؤيداً للمتطرفين)، والاحتلال (دولة إسرائيل)، والصمت عن الجرائم (سياسة واستراتيجية بعيدة المدى).. وكثير مما رسخته وسائل الإعلام والساسة.
وضمن مشروع أمريكي بدأ مع تدمير العراق عام 2003 لتزييف الحقائق نقلت وسائل الإعلام العربية عن الإعلام الغربي قوله: حرب تحرير العراق، بدلاً من أن تقول: حرب تدمير واغتيال العراق.
وهكذا الحال، اليوم، مع «غزة»، فاللعبة أن يتم تحويل التدمير الجاري إلى حرب عالمية لمواجهة الإرهاب (حماس)- وفق خطتهم- وكم كانت من المبكيات تدمير سوريا والعراق تحت هذا الشعار والذي شاركت فيه دول المنطقة مع أمريكا وحلفاءها تحت زعم مواجهة «داعش».
إن التدمير الصهيوني العالمي لغزة مستمر بعنوان «القضاء على الإرهابيين (حماس) وهي قضيته، فأين قضيتنا نحن المسلمين العرب؟ وماذا ستفعلون يا سادة، ويا دعاة السلام، ويا أسود قومنا، ويا من ترغبون بلعب دور في صناعة الشرق الأوسط؟».
إن تقديم المساعدات لشعب «غزة» المنفذ بحقهم الإعدام رميا بالصواريخ والقاذفات في مشهد يشابه تلبية طلب المحكوم عليهم بالإعدام بتقديم شربة ماء أو كسرة خبز.
يواصل التحالف العالمي الصهيوني ترسيخ مفهوم مواجهة الإرهاب بعد نجاحه في تدمير العراق وسوريا وليبيا والسودان وكثير من مناطق العالم وذلك بتكرار التصريحات من قادة هذا التحالف لدول أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، مؤكدين الدعم الكامل والمشاركة في جرائم الصهاينة في فلسطين تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
لقد شكلت تهمة الإرهاب لافتة براقة ومانعة من كشف أي جرم تنفذه الأنظمة والأجهزة الأمنية مع الأفراد والدول، إنه «الإرهاب» أبرز أوراق التدمير والاغتيال خلال العقود الماضية ويبدوا أنه سيستمر معنا عقوداً قادمة – إن كان في الزمان بقية لذلك-.
وتصاعد التخويف والتحذير الصادر من المجرمين وحلفاءهم لدول المنطقة بعدم التدخل في حرب ثنائية بين الدولة المزعومة إسرائيل مع الجماعة الإرهابية(حماس)، والتزمت دول المنطقة بتنفيذ التحذير الصهيوني، وامتنعت عن التدخل للدفاع عن غزة – كالعادة-!، ولا غرابة في ذلك، إذا طالعنا تقريراً مفصلاً نشره موقع «الحرة» الأمريكي في 24 أكتوبر الجاري تحت عنوان: متى جات وأين تتمركز؟.. خريطة انتشار القوات الأمريكية في الشرق الأوسط.
وبحسب التقرير، لا يوجد لموسكو سوى قاعدتين فقط في الشرق الأوسط يتركزان في سوريا هما قاعدة حميميم الجوية الواقعة في اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية، وتم تدشين هاتين القاعدتين في عام 2014 لحماية نظام بشار الأسد وإبقائه في الحكم رغماً عن المخطط الأمريكي، فيما تغيب الصين عن المنطقة في مجال القواعد العسكرية رغم وجود تعاون واتفاقات عسكرية لشراء الأسلحة والتعاون وإجراء التدريبات والمناورات المشتركة.
إن تقرير القوة الأمريكية في الشرق الأوسط يطرح تساؤلاً: هل إفساح المجال لقواعد عسكرية روسية وصينية يسهم بوقف التوغل الأمريكي بالمنطقة، وإحداث حالة من التوازن تحقق فرصة الدفاع عن حقوقنا ضمن الاستفادة من صراع هؤلاء الملاعين شرقاً وغرباً- وليس بمفهوم مساعدتنا وحمايتنا-؟.
واستدعي هنا ما أورده أبو بكر الطرطوشي الفقيه المالكي في كتابه «سراج الملوك» في صفحة 173 قائلاً: مثل العدو مثل النار، إن تداركت أولها سهل إطفاؤها، وإن تُركت حتى استحكم ضرامها، صعب مرامها وتضاعفت بليتها، مشيراً قول الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «إنما تقاتلون بأعمالكم»، فما هي أعمالنا، وهل ترضى ربنا أم تستجلب سخطه وغضبه؟
وراودني خاطر متسائلاً: هل يمكن للعرب أن يتفقوا ويخلقوا واقعاً جديداً يفرضونه على العالم، فلدينا القوة العسكرية والاقتصادية والجغرافية، ويجمعنا الإسلام والعروبة -على أقل تقدير تجمعنا المصلحة في بقائنا غير أذلاء-؟ وهل صار التجمع العربي والجيش العربي والفعل العربي حلماً أم وهماً أم ضرباً من الجنون لدينا؟
إن مأساة «غزة» -محنة ومنحة- فقد تكون فرصة لإعادة تموضع الأنظمة مع شعوبها أولاً ومع العالم ثانياً- إن كنا صادقين- وقد تكون سبباً لهلاكنا قريباً من الله ومن الناس، فبكل المعايير وكل السيناريوهات: لا وجود لنا إذا استمر حالنا القائم، ولن يغير الله أحوالنا إلا إذا غيرنا حقيقتنا.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأ خبار المحلية