تُعاني مصر منذ عقود من غياب استراتيجية موحدة لإدارة ملفاتها الحيوية، وعلى رأسها التعليم والصحة، مما أدى إلى تراكم الأزمات دون حلول جذرية.
في كل مرة يتغير فيها المسؤول، يبدو أن الأولوية الأولى هي «إعادة اختراع العجلة»، في تجاهل صارخ لما تم تحقيقه سابقاً.
النهج المتبع يمكن تلخيصه بعبارة «انسف حمامك القديم وابدأ من الأول»، حيث تُلغى سياسات وخطط سابقة، ليبدأ المسؤول الجديد بتجربة مختلفة، بغض النظر عن مدى كفاءتها أو ارتباطها بالاحتياجات الحقيقية للمجتمع.
في مجال التعليم، تُعد مصر نموذجاً حياً للارتجالية. بدلًا من بناء استراتيجية طويلة المدى تعالج جذور المشكلات مثل تكدس الفصول، المناهج غير المناسبة، وضعف التدريب للمعلمين، يتم التركيز على إصلاحات سطحية تستهلك وقتًا وموارد دون تحقيق تقدم حقيقي.
كل وزير يأتي برؤية جديدة، متجاهلاً ما تم إنجازه سابقاً، ليبدأ مشروعات تتوقف بمجرد مغادرته المنصب. والنتيجة هي نظام تعليمي متعثر لا يلبي طموحات الطلاب أو احتياجات سوق العمل.
الأمر لا يختلف كثيراً في قطاع الصحة، حيث يعاني المواطن من خدمات طبية متدهورة ونظام صحي يعاني من عدم الاستقرار.
المبادرات الصحية تأتي وتذهب دون أن تكون جزءاً من خطة شاملة لتطوير المستشفيات، دعم الأطباء، وتأمين الدواء بأسعار معقولة.
وكل مسؤول جديد يعيد ترتيب الأولويات وفق رؤيته الخاصة، مما يترك المواطن في حالة من القلق الدائم حول إمكانية الحصول على علاج لائق.
القاعدة البديهية في الإدارة السليمة هي أن كل مسؤول يأتي ليكمل ما بدأه من سبقه، لا أن يهدمه.
المسؤول الحقيقي هو الذي يلتزم باستراتيجية واضحة المعالم تم إعدادها بعناية وفق أهداف الدولة وأولوياتها، ثم يضيف عليها جهده واجتهاده لتطويرها وتحقيق إنجازات إضافية.
نظرية التطوير بدلاً من الهدم هي الأفضل، عندما يُبنى العمل الحكومي على أساس التراكم، يصبح الإنجاز أكثر استدامة وقيمة.
تبدأ كل مرحلة من حيث انتهت سابقتها، فيتحقق تطور حقيقي ومستمر.
لكن مع الأسف، في كثير من الحالات بمصر، يُفضل المسؤول إعادة صياغة السياسات والمشروعات، فيبدو وكأن الهدف ليس تحقيق النجاح بل طمس جهود الآخرين وتقديم رؤية جديدة بغرض إثبات الذات، بغض النظر عن حاجة الدولة والمواطنين لذلك.
بالطبع يكون هناك تأثير لغياب التراكمية على المواطن، والنتيجة الطبيعية لهذا النهج هي ضياع الوقت والموارد، واستنزاف جهود الدولة والمواطن دون فائدة تُذكر.
بدلاً من الاستفادة من البرامج السابقة وتطويرها، تجد المواطن يتخبط بين أنظمة ومبادرات تتغير مع كل قيادة جديدة، مما يزيد من إحباطه ويؤدي إلى ضعف الثقة في قدرة المؤسسات على تحقيق التغيير المطلوب.
التطوير لا يعني الجمود على ما هو موجود، بل يعني البناء عليه وتحسينه. إذا تبنّى المسؤول خطة استراتيجية طويلة المدى، فإنه يضمن استمرارية العمل وفق رؤية واضحة، ما يتيح تراكم الخبرات والإنجازات.
بهذا الأسلوب، يصبح كل مسؤول لبنة تُضاف إلى صرح الوطن، لا معولًا لهدمه.
إن الحل لهذه المشكلات يتطلب وجود استراتيجية وطنية شاملة تتسم بالاستدامة والتوافق مع الأهداف القومية.
يجب أن تكون هذه الاستراتيجية مرنة بما يكفي لتتطور مع الزمن، لكنها في الوقت ذاته ثابتة بما يكفي لتضمن استمرارية المشاريع والبرامج بغض النظر عن تغير القيادات. يجب أن يتم إشراك الخبراء والمجتمع المدني في صياغتها وتنفيذها، مع وضع آليات للرقابة والمحاسبة لضمان الالتزام بها.
باختصار.. غياب الاستراتيجية الموحدة لا يُضعف فقط الأداء الحكومي، بل يُعمّق الإحباط الشعبي ويزيد من معاناة المواطن الذي يتحمل تكلفة هذه العشوائية. إن مصر بحاجة ماسة إلى وزراء يؤمنون بأن النجاح الحقيقي يأتي من البناء على ما سبق، لا من هدمه والبدء من الصفر كل مرة.
الحل يكمن في الالتزام بالاستراتيجيات القومية التي تُعد بالتنسيق مع الخبراء وأصحاب المصلحة، مع منح المسؤولين حرية تطويرها في إطارها العام. هذا النهج لا يحقق فقط استدامة الإنجازات، بل يجعل المواطن شريكاً في التنمية بدلاً من أن يكون ضحية لفوضى القرارات المتغيرة.