في وقت يبدو فيه أن التاريخ يجد لذاته الحياد عن تقديم الدروس والعِبر، والجغرافيا تمتنع عن لعب دورها في التهدئة، يظل الشرق الأوسط مشتعلاً على نحو مزمن. نزاعات هنا، ومواجهات هناك، ومفاوضات متعثرة في شتى الاتجاهات. كأن هذا الإقليم كُتب له أن يكون انعكاساً للاضطراب ومرآة لفشل النظام الدولي المستمر.
لكن ما نشهده اليوم لا يمكن اختزاله في سياق الأحداث الراهنة وحدها. التصعيد في غزة، التوتر عند الحدود اللبنانية، التفجيرات في صنعاء، والركود المتفاقم في بغداد ودمشق، كلها تكشف مأزق أعمق وأطول أمداً في بنية المنطقة.
هذا المأزق لا يقف عند الحدود السياسية فقط، بل يمتد ليشمل الأفكار والثقافة أيضاً. لقد تآكلت مشاريع النهضة، وقُتلت السياسة بمفهومها الحقيقي، لتحل مكانها إدارة أمنية خانقة وشعارات خاوية المضمون.
ما يتكشف أمام أعيننا ليس مجرد انعكاس لأخطاء وقتية أو قرارات عابرة، بل نتيجة تراكم طويل الأمد لغياب رؤية سياسية عقلانية واستراتيجية فاعلة. القوى الدولية، التي تدّعي الحرص على القيم والمبادئ، لا تزال غارقة في ازدواجية المعايير، فتفرق بين دماء تستحق الإدانة وأخرى تجد لها مبررات.
تتسارع التحولات الجيوسياسية بوتيرة ملفتة. أعادت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج العربي قبل أيام تسليط الضوء على التغيرات العميقة التي يمر بها الإقليم.
لقاءاته مع قادة السعودية، قطر، والإمارات، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات اقتصادية وأمنية ضخمة، أثارت الكثير من التساؤلات.
وفي المقابل، غياب إسرائيل عن جدول زيارته رسم رسالة ضمنية عن إعادة ترتيب أولويات واشنطن في المنطقة. أما لقاؤه المثير مع الرئيس السوري حينها، فقد فتح باب التكهنات حول احتمالية تحول جديد في الموقف الأمريكي تجاه دمشق، مع ما يحمله ذلك من تداعيات تتعلق بإعادة تأهيل أنظمة كانت لفترة طويلة تعيش العداء مع الغرب.
هذه التحولات تعكس بوضوح محاولة الولايات المتحدة لإعادة ترتيب خارطة نفوذها في الشرق الأوسط، عبر مدخل المصالح الاقتصادية الجديدة والتوازنات الأمنية المتغيرة. وفي هذا السياق، كان التطبيع العربي مع إسرائيل يتسارع بخطى ثابتة وسط تآكل شرعية السلطة الفلسطينية وتعمّق النفوذ الإيراني والتركي. في غضون ذلك، يشهد الإقليم صعود حركات شعبية تعبر فقط عن شعور جمعي بالغضب وانعدام الثقة.
وسط كل ذلك يتجدد السؤال الحتمي: هل ما يمر به الشرق الأوسط يشير إلى إعادة صياغة جذرية لمنظومته السياسية؟ أم أن المنطقة تنزلق بخطى سريعة نحو انفجار أوسع لا يبقي شيئاً؟
على الجانب الآخر، يواجه المجتمع الدولي أزمة أخلاقية عميقة. فهو يستدعي القانون الدولي عندما يخدم مصالحه ويتجاهله عندما يتعارض معها. والنتيجة هي بيئة خصبة للتطرف وانتشار ظاهرة العنف بوصفها رد فعل على مشاعر الظلم والخذلان.
ما يحتاجه الشرق الأوسط اليوم لا يتمثل في كلمات تجتمع عليها المؤتمرات أو تغليف الأزمات ببيانات ختامية فارغة. ما هو مطلوب فعلاً هو إرادة حقيقية بين أطراف المنطقة لتأسيس حد أدنى من التوافق السياسي، وشجاعة فكرية تُخرج الخطاب من دائرة الطائفية والهوية الجامدة إلى آفاق تترجم المصالح والتطلعات المشتركة.
إذا لم يتحقق ذلك، فإن الجغرافيا ستبقى عقبة أمام السلام، وأرواح البشر ستظل ثمناً مستباحاً للحروب التي لا تنتهي.