في غزة، لا شيء يشبه الأشياء. هناك وحدها تتكثف المعاني، وتمتزج الحياة بالموت، والدم بالكرامة، والوجع بالإيمان.
منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، بدأت قوافل الشهداء تشق طريقها إلى السماء، تصطفّ في صمتٍ مهيب، وتحمل معها وجع أمة كاملة وكرامتها.
في كل جنازة، تُرفع راية، ومع كل دمعة، تُولد مقاومة، ومع كل شهيد، تُكتب ملحمة.
بطولات الغزيين.. أمهات لا ينكسرن وأطفال لا يهابون الموت
ليست غزة فقط تحت القصف، بل تحت الاختبار. ومع كل لحظة، تُثبت أنها أقوى من الموت، وأصدق من الخوف. من بين ركام البيوت، تخرج أمهات الشهداء بقلوب كالجبل.
تلك الأم الغزية، آلاء النجار، التي قدّمت أبناءها شهيداً تلو الآخر، كانت تقول للعالم: «نحن لا نودّعهم، بل نزفّهم». تلك الكلمات لم تُقل من فراغ، بل من قلبٍ يعلو على الجراح، من إيمانٍ يسبق الحزن.
أطفال غزة لا يخافون الطائرات، بل يرفعون رؤوسهم متحدّين الموت. في وجوههم الصغيرة ترى جبالاً من الكرامة. أحدهم يُقبّل يد والده الشهيد، وآخر يرفع راية المقاومة بحجم جسده الصغير.
أما الرجال والشباب، فهم بين لقاء ووداع؛ منهم من يخرج مودّعاً أهله إلى الميدان، ومنهم من يعود ملفوفاً بعلم، مُحمّلاً على الأكتاف، بعد أن دوّن اسمه في سجل الخالدين.
صرخة الأرض إلى السماء
غزة اليوم تسجّل أكبر حصيلة للشهداء في تاريخها. منذ طوفان الأقصى، أكثر من ثلاثمئة وخمسين ألفاً بين شهيد وجريح ومفقود. إنها المجزرة المفتوحة، التي تُرتكب على الهواء مباشرة، بينما العالم يراقب بصمت بارد. هي صرخة أرض الأنبياء، تشكو إلى الله قلة الحيلة، وهوانها على القريب والبعيد.
ما زالت رائحة المسك تفوح من الشهداء، كأن الأرض تحفظ طهارة من ماتوا فيها. وبين كل جنازة وأخرى، يتجدد السؤال الكبير: أين أنتم يا عرب؟ أين أنتم يا مسلمون؟ متى تهبّون كما تهبّ غزة كل يوم؟
باختصار.. ستبقى غزة شاهدة على عصر من السقوط الأخلاقي العالمي، لكنها أيضاً ستبقى منارة لأشرف ما فينا من ضمير. من دماء أطفالها، وأمهاتها الثابتات، ورجالها الأبطال، يُبنى مستقبل لا يساوم. فلتشهد السماء، ولتسجل الأرض، أن غزة ـ وإن نزفت ـ لم تركع، وأن قوافل شهدائها ليست نهاية الطريق، بل بدايته.