في العام العاشر من الهجرة، أعلن سيدنا محمد ﷺ عزمه على الحج، فشدّ الناس الرحال إلى المدينة، يلتمسون أن يأتموا به ﷺ في حجه الأول والأخير بعد الإسلام. خرج من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة، فكانت حجة الوداع، وكانت الكلمات التي ألقاها في عرفات ومِنى بمثابة وصايا مودّع يعرف أنه يُلقي آخر خطاب لأمته.
لقد حمَلت هذه الخطبةُ من المعاني ما لا تفي به المقالات، ومن الرسائل ما يتجاوز حدود المكان والزمان. وقف النبي ﷺ يخاطب أمةً ستنتقل من تحت جناحه إلى عهد الاستخلاف في الأرض، فكانت وصاياه بمثابة “دستور أخلاقي وروحي وإنساني” يُخاطب البشرية إلى آخر الزمان.
الزمان يعود إلى فطرته
أولى الوصايا كانت تصحيح مسار الزمن ذاته، حين قال النبي ﷺ:
“إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض…” (رواه البخاري ومسلم)
كأنما يعيد ترتيب الكَون، ويهدم ما شيّدته الجاهلية من تحايل وتغيير في مواقيت الشعائر. إنه نداء إلى الفطرة التي خُلقت عليها السماوات والأرض.
وصية الدماء والأعراض.. حرمة لا تُمس
في خطبة الوداع أعلن ﷺ – في أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان –: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.”
كلمات تُزلزل كل فكر يُسوّغ القتل والظلم وسفك الدماء، وتؤسس لعهد جديد يكون فيه الإنسان مكرمًا، ومأمونه دمه وعِرضه وماله.
وزاد ﷺ فقال: “ألا إن المسلم أخو المسلم، لا يحل له منه شيء إلا ما أُحل من نفسه.” .. أين المسلمون من هذا التوجيه النبوي وعلى بعد خطوات منهم تراق الدماء كانها ماء ليست حتى ماء نهر بل مياه بلا قيمة ولا ثمن، غزة تنزف كل لحظة وتروى ارضها بدماء ابناءها، والمسلمون يمصمصون الشفاه، ولا حياة لمن تنادي!!!
لقاء لا مفر منه
وسط وصاياه، أشار النبي ﷺ إلى الحقيقة الكبرى التي تُلجم الجوارح وتُرهب القلوب: “وستلقَون ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم.”
إنها ليست فقط تذكرة بالمآل، بل بوصلة حياة. من يعلم أنه سيلقى ربّه، يزن كل خطوة، ويراجع كل فعل، ويستحي من الخيانة والخديعة والظلم.
تحذير من فتنة السلاح
قال ﷺ في سياق مؤلم لِما سيأتي من تمزق الأمة: “فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض.”
كلمات تذوب لها القلوب، وتتحسر الأرواح التي رأت أمة الشهادة تمزقها السيوف والرايات، باسم الدين والدين منها براء. لقد حذر ﷺ من عودة الكفر، لا بالاعتقاد، بل بالفعل: قتل الأخ أخاه، ونسيان قداسة الحياة.
وبنظرة إلى حال الأمة الآن .. نجدها قد وقعت فيما حذر منه رسول اللهﷺ ، الذي ما ينطق عن الهوى أن هو الا وحي يوحى.
التبليغ مسؤولية الأمة كلها فقد قال رسول الله ﷺ: “ألا ليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع.”
هنا يتسع الخطاب من الحاضرين إلى الغائبين، ومن الصحابة إلى الأجيال، ومن الأذن إلى القلب. إنه أمرٌ لكل من سمع شيئًا من هذا الدين أن لا يكتمه، بل يبلّغه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب مبلَّغ أعلم ممن بلّغه.
وصية الوداع بالنساء
وسط الخطبة العظيمة، وقف النبي ﷺ ليخص النساء بوصية مستقلة: “فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله…” إنه إكرام المرأة في مقام الوداع، في جمع المهاجرين والأنصار، لا في خلوةٍ عابرة. إنه إعلان بأن للمرأة حقوقًا شرعية وإنسانية لا فضل فيها لأحد عليها، ولا يجوز أن تُهان في دار الإسلام.
الاعتصام بالقرآن.. النجاة من الضلال
قال النبي ﷺ في نهاية خطبته: “وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله.”
لم تكن مجرد وصية علمية أو معرفية، بل كانت وصية حياة. القرآن حبل النجاة، وسند الأمة حين تتخبطها الفتن. الاعتصام به ليس قراءةً فقط، بل اتباعًا واحتكامًا.
شهادة الأمة.. وأداء الرسالة، ثم ختم النبي ﷺ خطبته الخالدة بقوله: “وأنتم تُسألون عنّي، فما أنتم قائلون؟”
قالوا: “نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت.”
فقال رافعًا إصبعه إلى السماء:
“اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.”
رغم أنها كانت من اقسى لحظات الوداع، لكنها أيضًا لحظة شهادة: لقد بلّغ، وقد أُمرنا أن نُبلّغ.
أنا وهذه الوصايا
من بين هذه الوصايا كلّها، وجدتُ في وصية أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان –: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.”:
إن كنتُ قد شعرتُ بالمسؤولية تجاه إخواننا في غزة، ولم نناصرهم كما ينبغي، فليس أقل من أن أكون مبلّغًا لهذا العالم، من على هذه المنصة الإخبارية: أن في غزة دماء الأطفال والنساء تُراق، لا لشيء، إلا لأنهم يدافعون عن بيوتهم وأوطانهم… فهل من ناصر لهم؟!”
كل وصيةٍ من وصاياه ﷺ تُعد معيارًا، ولكن حين يُذبح العدل أمام أعيننا، فإن أول ما يجب أن نستحضر هو حرمة الدماء، وحرمة الظلم، وحرمة الخيانة.
في عرفات قالها النبي ﷺ، ونحن اليوم نعيد سماعها لا في خطبة، بل في صرخة أرضٍ تنزف.
وأنت، أي وصية شعرت أنها خُطّت لأجلك؟
خذ لحظة تأمل، وكن ممن سمع.. وبلّغ.. ووعى.