بقلم – علي السمان
على كل المستويات احتفلت مصر بعيد ٦ أكتوبر على مستوى جيشها المنتصر وقيادتها السياسية الواعية، وعلى مستوى الشارع المصرى، حيث الرأى العام الذى عبر عن سعادته بنصر ساهم فيه كل رجل وكل امرأة وكل شاب حتى الذين لم يعيشوا أيام النصر ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم ومن الأغانى المصرية التى أبدعت فى تمجيد انتصار شعب، لم يتوقع أحد أن ينتصر على إسرائيل بجيشها الذى قيل عنه إنه لا يقهر حتى جاء صوت السادات فى خطاب تاريخى أمام البرلمان يعلن لشعبنا النصر الذى تحقق فى ٦ ساعات.
نصر أكتوبر الذى أذهل المصريين والأجانب لأنه لم يكن يتوقع فى حقيقة الأمر، لم يأت هذا النصر من فراغ بل جاء بعد ملحمة من الجهد، بدأت بحرب الاستنزاف الذى كان عبارة عن ثورة داخل جيش مصر بفضل تغير كامل فى القيادات العليا للجيش بتعيين الفريق محمد فوزى والفريق صادق اللذين أدارا بعبقرية وإرادة تنظيمية لم تحدث فى تاريخ مصر الحديث، مع تمرين وتدريب لم يتوقف من سنة ٦٧ إلى ٧٣ ولم يتردد الفريق صادق فى استبعاد كثير من الضباط غير القادرين وغير الصالحين.
ولذلك كنت دائما أكرر أنه يستحيل فصل معركة أكتوبر ونصرها عن حرب الاستنزاف.
وكانت حرب الاستنزاف وما بذل فيها من جهد جبار، تسديدا لدين لعبد الناصر تجاه الشعب الذى اعترف له الزعيم عبدالناصر بشجاعة أدبية منقطعة النظير أنه يتحمل كاملا مسئولية هزيمة يونيو ٦٧ ويعلن تنحيه عن الحكم، قبل أن ينزل شعب مصر بأكمله إلى الشوارع ويطلب بل يأمر زعيمه بأن يكمل مسئوليته بعودته إلى منصبه ليقود وطنه وجيشه حتى النصر.
وحينما سيكتب التاريخ بموضوعية سنرى أن صفحة حرب الاستنزاف هى صفحة منيرة تشرف تاريخ مصر وجيش مصر وقيادتها السياسية مع جمال عبدالناصر، وصفحة من الجهد الذى لم يتوقف مع إيمان جيش وشعب أقسم أمام الله أنه سيناضل بلا هوادة ولا توقف حتى النصر، الذى سيمحو صفحة هزيمة يونيو ٦٧، واستمرت ملحمة الاستنزاف حتى ارتبطت حلقاتها بمعركة أكتوبر ٧٣.
وحينما تولى الرئيس السادات الحكم فى سبتمبر ٧٠ لم يكن الرأى العام المصرى مستعدا لأن يعترف بالسادات زعيما يستطيع أن يقوده حتى النصر، لأن أسلوب قيادته كان مختلفا تماما عن سلفه، فضلا عن أنه اختار مع العدو الإسرائيلى ومع شعبه أسلوب التمويه، وكأنه لا يريد أن يعلن أنه سيحارب تطبيقا لتكتيك اختاره، وهو التمويه على العدو، وبدعوته إلى الهدوء والاطمئنان، وأن يكون لذلك أثر على جدية إعداد جيشه عسكريا، وكان هدفه الاستراتيجى هو أن يلعب لعبة المفاجأة حتى تأتى ساعة المعركة، وبالتالى حينما اقتربنا من تاريخ ٦ أكتوبر لم يكن الشعب وبالذات الشباب يعلم أن السادات سيحارب.
ولن أنسى أنه حينما عملت معه مستشارا للإعلام الاقتصادى منذ أغسطس ٧٣، بقيت فى العمل فى قصر عابدين، وكان من حظى أن أعددت مع مجموعة فرنسية فيلما عن حياته، واستمر الإعداد له من سبتمبر ٧٣ وحينما تم الإعداد تصادف أن يذاع الفيلم فى ١٠ أكتوبر فى فرنسا ومعظم العواصم الغربية فى توقيت كان العالم أجمع يريد أن يتعرف فيه على هذا الرئيس المصرى الذى فاجأ العالم أجمع، بدخوله المعركة فى ظهر ٦ أكتوبر، وأن يراه وهو يكسر خط برليف المنيع، وأن يحقق أولى خطوات نصر أكتوبر بعد ست ساعات من بدء المعركة، وحينما أعلن ذلك إلى شعبه أمام البرلمان استعاد ثقة الجميع وكرامته التى حاول الكثيرون أن ينالوا منها.
وبعد أن تم النصر وبدأت المفاوضات، فهمت أمريكا أنها يجب أن تأخذ كلام السادات مأخذ الجدية.
ومن هنا يجب أن نعترف أن نصر أكتوبر كان الخطوة الأساسية التى قادتنا لمفاوضات كامب ديفيد، ثم اتفاقية السلام مع استرداد كل شبر من أراضى سيناء المحتلة.
وكيف أنسى أن السادات قبل أن يذهب للقاء بيجين رئيس وزراء إسرائيل العنيد، طلب منى أن أعد له لقاءات، حسب تعبير له لن أنساه «أريد أن التقى أثناء مرورى بباريس فى طريقى لكامب ديفيد مع خمس قيادات يهودية عالمية وعالية المستوى ولها مكان فى التاريخ اليهودى»، وذهبت فورا للقاء صديقى برونو كرايسكى مستشار النمسا واتفقنا على اختيار خمس شخصيات ينطبق عليها المعايير التى حددها الرئيس السادات، وهم: «ناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودى العالمى والذى نادى دائما بحل الدولتين إسرائيل وفلسطين، والبارون أدموند روتشيلد حفيد روتشيلد مؤسس دولة إسرائيل، وكارل كاهان صاحب أهم البنوك النمساوية والذراع اليمنى لمستشار النمسا، وكذلك ابن المفكر الذى كتب مشروع وعد بلفور، وكذلك سيرسيموند فوار بورج الذى حاول التفاوض تاريخيا مع هتلر فى المانيا لقبول الحصول على دعم مالى فى نظير أن يترك اليهود فى سلام، وحينما اكتشف أن هتلر يريد مال اليهود وأن يقضى عليهم هرب من المانيا وهاجر إلى إنجلترا. وكان لقاء السادات مع هؤلاء العمالقة لأنه أقنعهم بنياته الحسنة تجاه السلام، وقام الخمسة اليهود بجهود لم أنسها لإقناع موشى ديان وعيزرا وايزمان بالضغط على بيجين أثناء مفاوضات كامب ديفيد حتى يقبل إلغاء وجود المستعمرات بسيناء.
كل هذه الخطوات كانت فى الواقع جزءا من خطة السادات لإعداد الغد الذى ينقلنا من الحرب إلى السلام.