بقلم – محمد عبداللطيف
لدى قناعة بأن الفساد أكثر خطرا على البلد من الإرهاب، ولدى يقين راسخ، لا يراودنى فيه شك، بأن الدولة لم تحاربهما من جزورهما كظاهرتين مهددتين للاستقرار، فقط تواجه الإرهابيين كأفراد وتنظيمات، والفاسدين كرموز ممن «فاحت ريحتهم»، لذا فإننى لم أندهش من خبر القبض على نجل رئيس هيئة قضايا الدولة الأسبق فى قضية الرشوة، وما صاحبها من صخب وضجيج غير مسبوقين، كما أننى لم أترك مجالا لخيالى أن يحلق فى تأمل حجم المبالغ المضبوطة، رغم ضخامتها، بلغت نحو ١٥٠ مليون جنيه عملات محلية وأجنبية، بخلاف العقارات والفيلات والشاليهات والسيارات والأراضى، وما خفى كان أعظم!
لكن ما حفزنى على الكتابة هو اتساع مساحة «القبح الإعلامى والفيسبوكى»، المشحون بـ«الشيزوفرينيا»، تارة عبر الطنطنة والبهجة، لسقوط أحد الفاسدين، وإن كان من وجهة نظرى أمر يستحق الإشادة والثناء على الجهاز الرقابى الذى أنجز المهمة، لكن هذا لا يعنى أننا قضينا تماما على منظومة الفساد، الذى استشرى بصورة قبيحة فى أجهزة الدولة ذاتها، وتارة أخرى، يشحذ بعض الإعلاميين همتهم لتبرير السياسات الخاطئة التى تعانى منها الغالبية الساحقة والمسحوقة.
بين هذا وذاك، تكمن رذيلة خلط الأوراق، باعتبار أن القضية تبعث على الأمل فى القضاء على كل أشكال الفوضى الناتجة عن الفساد، بدون إدراك أن مجرد ذكر الأرقام المضبوطة يحرض على مزيد من الاستياء لتزامن الواقعة مع شيوع حالة إحباط عام، تسللت إلى النفوس من السياسات العشوائية، لحكومة أدمنت الفشل منذ توليها المسئولية، فهذه الحكومة عجزت بامتياز عن الوفاء بالتزامتها، وبدلا من احتوائها الغضب الشعبى، عملت على تزكيته، وساهمت بحماقة فى تناميه، ليشمل جميع شرائح المجتمع الذى بات يئن من كثرة الأوجاع، جراء الارتفاع الجنونى فى أسعار السلع الضرورية، وعدم قدرة الغالبية على توفير الحد الأدنى من المتطلبات الحياتية، بسبب فساد الذمم وخراب الضمائر، وعدم قدرة الأجهزة الرقابية على محاصرة الغلاء الناتج عن توحش الفاسدين من المحتكرين والتجار، فذهب كل ما فى الجيوب، إلى الحد الذى لم يعد فيه «نواية تسند الزير».
الترويج الأحمق من وسائل الإعلام المختلفة للسياسات الاقتصادية الفاشلة ليس له وصف سوى «أنه دعارة إعلامية»، مفضوحة، مكشوفة، هؤلاء يبررون جميع القرارات الصادمة، ويروجون بأنها لصالح البسطاء، دون إحساس بأن الناس تتخبط ولا تثق بأى «طنطنة».. فهؤلاء فقدوا بريق التأثير على الرأى العام، الجميع بات يستهزئ بهم وبأقوالهم وتبريراتهم، فهم يتحدثون عن أن القرارات الحكومية، تصب فى صالح الغلابة، رغم أنها تدهس الغلابة وغير الغلابة من المهددين بفقدان أرزاقهم، والمثير أن هذا يحدث فى الوقت الذى بلغت فيه أجور هؤلاء الإعلاميين أرقاما لا تتسق مع الأوضاع الاقتصادية التى تمر بها البلاد، والظروف الاجتماعية التى يئن منها العباد. هذه الأجور تتعدى الملايين، ولا توجد لدى هذه الفئة مشكلات من أى نوع. أنا هنا، لن أتطرق من بعيد أو قريب لتفاصيل القضية، باعتبارها محل تحقيق، لكننى أرى من المنطقى جدا، رغم الإشادة، توجيه الإدانة إلى جميع الأجهزة المعنية بحماية المال العام فى هذا البلد، لأسباب تبدو من وجهة نظرى موضوعية، فبديهى أن حجم المبالغ التى جرى ضبطها لم تكن رشوة لعملية واحدة، فهذا لا يتسق مع العقل، لكنها نتاج لعمليات متعددة جرت عبر فترات زمنية مختلفة وارتكاب وقائع متنوعة، أى أنها لم تكن وليدة لحظة القبض على المسئول، فضلا عن أنه لا توجد عملية واحدة، يمكن الحصول منها على تلك المبالغ الضخمة، وإلا كان السؤال المنطقى.. كم حجم العملية إذن؟.. أو كم قيمة المشتريات التى يمكن من خلالها دفع هذه المبالغ الضخمة تحت الترابيزة؟ وما نوعية تلك المشتريات الضخمة؟.. وما حاجة الهيئة القضائية لها؟
هذه القضية، على الأقل بالنسبة لى، لا تحتمل أكثر من حجمها الطبيعى، الذى لا يتجاوز حدود سقوط فاسد من بين آلاف الفاسدين يمرحون فى جميع الجهات، ممن نهبوا ثروات البلد، ودهسوا تحت أقدامهم الأخضر واليابس، فهى كاشفة عن تبلد الجهات الرسمية فى الدولة، وعدم إلمام أجهزتها بما يجرى فى كواليس المصالح والهيئات الحكومية وإلا.. لماذا تركت هذا الفاسد، المرتشى، يتوحش ويحقق تلك الثروة الهائلة، هى فقط تنتظر بلاغا من متضرر يخبرها بما يجرى، لكى تتحرك، كما أنها تحشد قواها فى قضايا الرشوة دون سواها، وإن كان هذا مهما ومطلوبا، إلا أن الفساد متنوع، وله ألف وسيلة، فهو كظاهرة، متخم بالكثير من الوقائع، ويشغل اهتمامات وأحاديث قطاعات عريضة من شرائح المجتمع، وهذه الأحاديث من فرط أهميتها، تحفز على الوقوف أمامها لطرح العديد من التساؤلات المهمة والملحة، مجملها يدور فى إيجاد الحلول الجذرية، للحد من تنامى سطوة الظاهرة، وهذا بدوره يحتاج إلى تحقيق العدالة بين فئات الشعب، والعدالة تحتاج إلى توافر إرادة، والإرادة تحتاج إلى وقفة حاسمة من جميع مؤسسات الدولة، كل حسب مسئولياته الدستورية، سواء بإصدار تشريعات تحد من العبث بالمال العام، أو تعطيل العمل باللوائح العشوائية فى عدد من قطاعات الدولة، مثل مرفقى الكهرباء والمياه، بالإضافة إلى قطاع البترول، فكلنا يعلم أن الموازنة العامة للدولة يتم تدبيرها من الرسوم السيادية، الضرائب بأنواعها والجمارك، بالإضافة إلى دخل قناة السويس وفائض الهيئات والقطاعات الاقتصادية وإتاوات البترول، بالمناسبة مصطلح «إتاوات» ورد نصا فى الموازنة العامة للدولة.
أما الأحاديث التى تشغل الكافة الآن، فتتناول الارتفاع غير المبرر، الذى يتضاعف شهرا بعد شهر، فى فواتير الخدمات الضرورية، «مياه- كهرباء- غاز»، لذا يبرز التساؤل هل هذه الزيادة التى تفوق قدرة العقل البشرى على استيعابها، وقدرة المواطن المطحون حتى النخاع على الوفاء بها، ستذهب جميعها لصالح الخزانة العامة؟.. هل ستكون جزءا من الموارد الأساسية لتغطية العجز فى الموازنة؟.. أم أنها ستذهب مكافآت وبدلات لجان وحوافز للمحظوظين فى هذه القطاعات، وكأن تلك المرافق إرث للعاملين بها، ألم تكن هذه الأموال ملكا للشعب؟.. ألم تنظر الجهات الرقابية والبرلمان والمؤسسات الرفيعة داخل الدولة، لحجم الأرباح السنوية للعاملين فى تلك القطاعات؟ فى الوقت الذى يتقاضى فيه الملايين من العاملين فى القطاعات الخدمية بالدولة الملاليم، ألم تكن هناك ضرورة بفتح جميع الملفات، للحد من توحش الدخول على حساب الشعب المطحون حتى النخاع، فهل شركة المياه تشترى المياه أو تستوردها؟
وإذا انتقلنا إلى قطاع البترول، كلنا يعلم أنه مدين للدولة ويتم دعمه، بما يؤكد أنه قطاع خاسر، خصوصا إذا علمنا، أن استيراد احتياجاتنا من البترول يكلف الموازنة العامة للدولة مبالغ هائلة، لكن لأننا نعيش فى شبه دولة أو اللا دولة، نجد أن القائمين على صناعة القرار فى هذا القطاع، يمنحون الهبات والعطايا للعاملين به، إلى أن صارت حقا مكتسبا لكل العاملين، وليذهب المواطن الفقير إلى الجحيم، هنا تبدو علامات الاستفهام منطقية، هل توقفت الأجهزة الرقابية أمام حجم وكم القروض الممنوحة للعاملين فى هذا القطاع بدون فوائد، لشراء وحدات سكنية وسيارات وخلافه؟.. هل هذه الأموال، ملكية عامة أم أنها خاصة للعاملين بالشركات؟ ولماذا لا يحدث هذا فى بقية مؤسسات الدولة؟ كان مثيرا لى أن تأتى التساؤلات المشحونة بغضب شعبى مشروع، من ترويج الإعلام للاكتشافات البترولية وحقول الغاز، الناس يتحدثون.. ما الذى سنجنيه أو يعود علينا بالنفع، إذا كان الدعم قد ولى إلى غير رجعة، والعاملون فى قطاع البترول صاروا ملاكا له، باعتبار أن الآبار والاكتشافات من موروثات عائلاتهم، كل منهم يستطيع شراء شقة فى الوقت الذى يريده، أو يحصل على مبالغ ضخمة لاستثمارهما.
فى هذا السياق، لا ألوم تلك الأصوات، فأصحابها، رغم أنهم من العاملين فى قطاعات الدولة، إلا أن رواتبهم لا تكفى للعلاج الشخصى، وليس الأسرى، فالفساد معلوم للقاصى والدانى، لذا وجدتنى أجنح بعيدا عن النظرة الضيقة، المحدودة المرتبطة بقضية الرشوة، وأذهب إلى ما هو أكثر أهمية، فإذا كانت هناك نية حقيقية للمواجهة، فلتكن ضد الفساد كمنظومة وثقافة سائدة وعدم الاكتفاء فقط بالفاسدين كأفراد، فهؤلاء مهما بلغت درجة قبحهم سيتساقطون، فلتكن البداية داخل قطاعات الحكومة، عبر تنقية اللوائح الداخلية التى حولت ممتلكات الشعب إلى عزب خاصة، فالأموال الممنوحة للعاملين بدون فوائد وبتسهيلات مريحة، ليست ملكا للعاملين بها، إنما هى ثروات عامة، أى أنها مملوكة للشعب المصرى وليست فئة منه، وعلى البرلمان والمؤسسات الرقابية والسيادية أن تنقذ ثروات الشعب من الفساد المقنن، إذا كانت هناك رغبة حقيقية لوأد الفساد.