بقلم – حسن شكري:
عندما توافرت الموارد المالية الكبيرة لبعض البلدان النامية بفضل النفط، وفى بلدان أخرى بالاستناد إلى العمالة الوفيرة الرخيصة نسبياً، وتسليماً بواقع ضيق السوق الداخلية، تحولت بلدان كثيرة نحو الإعداد بهمة لصناعات تتوجه منتجاتها للسوق العالمية الواسعة، وهكذا وعلى عكس سياسة التصنيع لإحلال الواردات، قامت سياسة التصنيع على فكرة التخلى من البداية عن السوق الداخلية.
وبطبيعة هذا التوجه، تتركز التنمية الصناعية هنا فى مشروعات على درجة عالية من تكنولوجيا الإنتاج وكثافة رأس المال، بينما لا تحتاج لعمالة كثيفة، وكذلك فى مشروعات الصناعة الخفيفة وخاصة صناعة الغذاء وصناعة الملابس، وهناك صناعات هى بالضرورة ونظراً لضخامة حجمها الاقتصادى لا بد أن تتجه للتصدير، مثل تصنيع المواد الهيدروكربونية، وفى هذه الحالة، فغالباً ما تضمن هذه الصناعة سبل تسويقها فى الخارج بالتعاون مع الاحتكارات الدولية ذات السيطرة العالمية على تلك الصناعة، لكن الصناعة الجديدة غالباً ما تدخل فى إطار عملية إعادة توزيع الصناعات عالمياً، حيث تحاول البلدان الصناعية المتقدمة أن تحتفظ لنفسها بالصناعات الحيوية من إلكترونية وكهربية وأن تتخلى عن الصناعات غير الحيوية أى الصناعات الدنيا أو التافهة أو المتقادمة تكنولوجيا مثل الصناعات كثيفة العمالة أو خفيفة التكنولوجيا أو كثيفة التلويث للبيئة، وحتى عن بعض الصناعات العليا لكن الشديدة الاستهلاك للخامات أو للطاقة الرخيصة من الغاز الطبيعى والبترول والكهرباء، وفى أغلب الأحوال، تدخل مثل هذه الصناعات الجديدة محلياً فى إطار الدورة التكنولوجية لإنتاج السلعة النهائية حتى تصريفها الخارجى، بحيث تقتصر الصناعة المحلية على حلقة واحدة أو أكثر من حلقات تلك الدورة، وبحيث لا تكتمل السلعة أخيراً إلا فى الخارج، وهى بذلك تعد صناعات محلية، قد تكون متقدمة، لكنها محكومة باستراتيجية خارجية لم توضع داخل البلد النامى، وهى تعبر من ثم عن إمكانية قيام صناعات تتوطن فى أرضه، لكنها لا تساهم فى تنمية اقتصاده، إنها تشكل نمط التكنولوجيا الذى يمثل نمطاً جديداً من أنماط التبعية التكنولوجية.
تلك هى القضية الجوهرية فى التصنيع، قضية التناسب بين الصناعات الحيوية المتقدمة والصناعات غير الحيوية المتخلفة، وهى تثير بالضرورة مشكلة تابعة هى مشكلة اختيار التكنولوجيا المناسبة لرفع إنتاج كل من العمل ورأس المال، وفى العادة تطرح هذه المشكلة كمشكلة نقل التكنولوجيا من الخارج باعتبار واقع التخلف الداخلى، لكننا نرى المسألة معكوسة، فالمطلوب فى الواقع هو خلق التكنولوجيا المناسبة لا نقلها، وهذا الخلق إنما يبدأ بتطوير التكنولوجيا المحلية جنباً إلى جنب مع خلق الوسط الاجتماعى والثقافى والتكنولوجى الذى تستطيع فيه القوى العاملة المحلية أن تستعيد قدرتها على الخلق التكنولوجى، إنها عملية حضارية شاملة وليست مجرد استيراد لمنجزات الحضارة الأجنبية، وفى هذه الحدود يمكن أن تطعم التكنولوجيا المحلية بما يناسبها محلياً من التكنولوجيا الأجنبية، سواء كانت هذه الأخيرة كثيفة العمل أو كثيفة رأس المال.
إن لكل نمط إنتاجى تكنولوجيا مناسبة له وموضوعة فى خدمته، وبتحويل المعرفة العلمية إلى تكنولوجيا إنتاجية، فإن النشاط الصناعى يصبح قادراً على زيادة إنتاجية العمل البشرى إلى آفاق بعيدة، وفى الماضى نمت الصناعة استناداً إلى توسيع قاعدة إنتاج مستلزمات الإنتاج والهياكل الأساسية ومن ثم فقد نمت فى الفروع التى لا تحتاج إلى درجة عالية من تكثيف البحث العلمى، لكن الصناعة الآن تنمو اعتماداً فى الأساس على نتائج البحث العلمى، وبدون توسع مواز لها فى الصناعات الوسيطة، وقد ترتب على ذلك انخفاض الوزن النسبى لفروع الصناعة التى تستهلك مواد أولية بكثرة، وانخفاض ما تستهلكه الوحدة الواحدة من المنتجات من خامات طبيعية وتطوير البدائل الصناعية وكثير من الخامات الزراعية، والبدء فى إزاحة الخامات المعدنية الطبيعية، والاستخدام المكثف للمركبات الصناعية، وكلها نتائج تتناقض مع أوضاع أغلب البلدان النامية ذات التخصص فى إنتاج وتصدير الخامات الطبيعية، الزراعية منها والمعدنية.
ولهذا فإن قضية نقل التكنولوجيا ليست بالبساطة، التى تقدم بها فى العادة، فنقل التكنولوجيا المعينة إنما هو بالدرجة الأولى نقل لنمط معين لاستخدام العناصر التكنولوجية من العمل ورأس المال، وهو نمط مناسب فى الأصل لظروف بلدان صناعية متقدمة، أصبحت تتكيف وخاصة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية مع أوضاع تراخى قبضتها على مصادر الخامات الطبيعية فى البلدان النامية.
المهم هنا أن تتخذ البلدان المتخلفة موقفاً جدلياً من قضية التكنولوجيا وإلا ترفض مبدئياً زيادة كفاءتها الإنتاجية التى تتيحها التكنولوجيا الحديثة الأجنبية، لكن هذه التكنولوجيا الأجنبية تظل عاجزة عن إحداث مفعولها طالما ظلت طلاء على السطح، ومن ثم ينبغى أن تتحول إلى خبرة محلية تساعد على تطوير التكنولوجيا المحلية، ومن جانب آخر فإن التكنولوجيا المستوردة من البلدان الرأسمالية تحمل معها بالضرورة أنماطاً من الهياكل الصناعية قد لا تكون دائماً متفقة مع مصالح الأغلبية الساحقة من سكان البلدان المتخلفة.
من هنا تواجه البلدان المتخلفة قضية الاختيار التكنولوجى بين شكلين من أشكال التصنيع:
أ) شكل متسع: يعتمد على تطور التكنولوجيا المحلية، سواء كانت لا تزال قائمة أو كانت قد أهملت ودمرت، على أساس ما هو متاح من معدات رأسمالية ومستوى لإنتاجية العمل مع تشغيل قدر إضافى من رأس المال وقوة العمل، ويصح هذا الشكل أساساً للبلدان المتخلفة ذات السوق الداخلية الضيقة، لكنه لا يزيد من إنتاجية العمل، وبالتالى لا يساعد على زيادة التراكم والاستهلاك.
ب) شكل مكثف: يعتمد على تبنى التكنولوجيا الحديثة فى آخر صيحة لها، مع ما تستتبعه من استثمارات ضخمة وعمالة ماهرة وإرادة متخيرة، وهذا الشكل ضرورى، إذ إنه يكفل فى المستقبل تنظيماً تدريجياً وتحسيناً تكنولوجياً لكل فروع الاقتصاد القومى، كما أنه يتيح إمكانية الانتقال من أساليب الإنتاج التقليدية إلى استخدام نتائج الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة ولا يستطيع البلد النامى أن يأخذ بشكل دون آخر من هذين الشكلين، وإنما عليه أن يتبع قدراً من التناسب بين الأساليب الواسعة والأساليب الكثيفة، وبعبارة أخرى، فإنه ينبغى أن يتخذ موقفا انتقالياً إزاء التكنولوجيا المستوردة، لتوفير مزيج تكنولوجى مناسب، وهذا المزيج هو الذى يستطيع أن يجمع بين صناعات تكنولوجية كثيفة رأس المال، كالصناعات الكيماوية والبتروكيماوية والأسمدة والحديد والصلب، وصناعات كثيفة العمالة كصناعات النسيج والتجميع، وبتحقيق هذا المزيج فيما بين الصناعات أو فى داخل الصناعات الواحدة، وذلك بتجزئة العملية الإنتاجية إلى مراحل بحسب طبيعة الإنتاج، يكون بعضها كثيف العمالة بينما بعضها كثيف رأس المال.
لكل هذا فإن التصنيع فى الظروف المعاصرة هو الذى يحدد بالتدريج كما يقول ميردال «إعادة بناء القطاعات الرئيسية وإنشاء القاعدة المادية التكنيكية للبلاد، ويدخل هذه العملية إعادة تشكيل الهيكل الاجتماعى وتغير مكان ودور البلاد فى الاقتصاد العالمى»، ومن ثم يحذر ميردال من حقيقة «أن بلدان آسيا الجنوبية تصطدم فى الوقت الراهن بخطر إنشاء جزر صغيرة من الصناعة الفائقة التنظيم من النوع الغربى التى تبقى محاصرة ببحر من الجمود»، وبعبارة أخرى، فإن التصنيع ليس بالمرة مجرد بناء صناعة حديثة.
إن على استراتيجية التصنيع أن تحل فى الواقع مسألة اختيار المعايير الاقتصادية والفنية للتنمية الصناعية، لتحديد هيكل توظيف إجمالى الدخل القومى، وتوزيع رأس المال والعمل بين فروع الاقتصاد القومى، والعلاقة بين عوامل النمو الواسع والنمو الكثيف، والعلاقة بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، لكن عليها أيضاً أن تدرك أن التنمية الصناعية تجرى فى إطار أشكال اجتماعية معينة. لكل ذلك، فإن التصنيع مستحيل دون تدخل الدولة، دون القيادة المركزية لعملية التصنيع من قبل الدولة، وبغير الإخلال بفعالية آلية السوق، فإنه ينبغى أن تتحول الدولة إلى أداة حاسمة فى آليات التنمية الاقتصادية.