بقلم – عبدالعزيز النحاس:
ثورة تكنولوجية اتصالية مدهشة، ليس هى إلا أهم ما يميز عصرنا الحالى، حتى استحق أن يكون عصر «السماوات المفتوحة»؛ إذ لم يعد ممكنًا احتجاز الطموحات والتطلعات الشعبية فى الحيز الذى تفرده النظم غير الديمقراطية لإعلامها الرسمى، مهما علا واتسع.
من هنا كان التطور الكبير فى وظائف الإعلام من مجرد التوجيه والإرشاد إلى آفاق رحبة من التنوير ونشر المعرفة، وجمع الإنسانية على قضاياها الأساسية، بعيدًا عن خصوصيات، باتت صغيرة، وضاقت فعلًا عن استيعاب القواسم المشتركة بين الشعوب.
فى هذا السياق، يصح النظر إلى السياق الحاكم للإعلام الوطنى، الرسمى منه والخاص على السواء، وفى هذا الشأن يمكن إبداء الملاحظات التالية:
– لا شك أن الإعلام الخاص، الماثل فى القنوات الفضائية العديدة، قد نهض بدور مهم فى إجلاء الحقائق أمام الشعب، فكان أن بشر بثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة عام ٢٠١١ لكثير من مراكز البحث والتفكير المعتبرة التى رأت فيما يبثه الإعلام المصرى الخاص بوادر سقوط هيبة النظام. وكان الرئيس الأسبق مبارك قد سمح بكثير من التمدد فى حرية الإعلام بغرض إضفاء مسحة زائفة من الديمقراطية على نظام حكمه، فما كان إلا أن كبر الوحش الإعلامى وتمرد على حواجزه، فكان داعمًا أساسيًا لخلع نظام مبارك بأكمله.
– فى ذلك التوقيت، خسر الإعلام الرسمى كل رصيده من المصداقية. وجراء ذلك عانى كثيرًا من هجوم ثورة يناير عليه. ومن ينسى كاميرات ماسبيرو المُسلطة على الكوبرى المواجه لماسبيرو وقد خلا من الناس تمامًا، بينما ميدان التحرير يشتعل بالثوار!
– وعليه، ساد المشهد الإعلامى الرسمى ارتباك كبير بعد استتباب الأمر فى يد الثورة، فماسبيرو مُهيأ تاريخيًا ليكون أداة طيعة فى يد النظام الحاكم، وقد بات المشهد، بعد ثورة يناير، يخلو من نظام رسمى له صفة الدوام والاستقرار التى تتيح له استيعاب الإعلام الحكومى فى أحضانه. ومن ثم ساد التوتر إعلامنا الرسمى الذى فقد بوصلته مع سقوط نظام مبارك، فكانت سقطات ملحوظة فى الاتجاهين تزايد وتغالى ما بين بقايا نظام مبارك البائد، ودعاة الثورة بشعبيتها الطاغية. وعلى هذا الحال، ظل ماسبيرو، وفق أفكاره التقليدية، ينتظر نظامًا يخضع له، ويستند إلى شرعيته فى مجافاة ما هو متبع فى المجتمعات الديمقراطية، حيث الإعلام سبيل إلى مشاركة شعبية واسعة فى إدارة شئون الدولة، من خلال ما يتيحه من تنوير موضوعى وأمين للرأى العام، بينما الثورة تنتظر أن يتبناها إعلام وطني واع.
– وبسقوط الحكم فى يد الجماعة الإرهابية، عرف ماسبيرو ضالته، وكان طبيعيًا أن يخضع لها، خاصة وقد تولى وزارة الإعلام أحد رجالها، الذى اجتهد سعيًا إلى «أخونة ماسبيرو»، وبات الأمر محسومًا فى ماسبيرو، كغيره من المؤسسات التى خضعت للجماعة، سواء فى غفلة من البعض، أو بدعم من بعض المنتفعين من القوى السياسية الوطنية الآكلة على كل الموائد، الشاربة من كل الكؤوس.
– واستقبل الإعلام الخاص الأمر باعتبار ما أنتجته الثورة من شرعية لجميع مكونات النسيج الوطنى فى امتلاك الثورة والتعبير عن قيمها وأهدافها، فكان أن أفردت مساحات كبيرة لرموز الجماعة، ولجميع القوى السياسية، وفق أوزانها النسبية، وكذلك بما تمليه بعض المصالح التى لا يمكن أن تخلو منها حياة سياسية، بينما مال الإعلام الرسمى نحو الصاعد إلى السلطة بوضوح كامل.
– وما أن استقر الأمر فى ماسبيرو إلى الركون لأصحاب الأمر والنهى، الجماعة الإرهابية، إلا وكان انتفاض الشعب سريعا فى الثلاثين من يونيو فى محاولة جادة لاستعادة ثورة يناير المجيدة، وليس أبدا بغرض العودة بالوطن إلى قيم وسياسات نظام مبارك البائد. فتبدل استقرار ماسبيرو إلى حركة ارتجالية، الكل يبحث فيها عن النظام الذى حقق له مصالحه، أو يُرتجى منه أن يحققها، وهنا مالت التوقعات نحو عودة نظام مبارك، فعادت بعض الوجوه القديمة، ومالت السياسة الإعلامية خلفا!
– على هذه الخلفية، كان طبيعيا أن تمتد مبادئ وقيم دستور ٢٠١٤ إلى الإعلام، تنظمه، وترتب أوضاعه بما يتفق والثورة المصرية، ثورة يناير وموجتها التصحيحية الهادرة فى الثلاثين من يونيو، والتى هى وجه آخر لذات ثورة يناير، مخصوما منها مساهمات الجماعة الإرهابية الزائفة. فعمد الدستور إلى التأسيس لإعلام وطنى على وعى حقيقى بمسئولياته الوطنية الضخمة فى ظل مشهد داخلى سريع التطور، بالغ الحساسية. لكن الخطى تحركت بطيئة فى ذلك الاتجاه حتى أننا الآن، وبعد نحو ثلاثة أعوام مضت وكأن شيئا لم يكن حتى الآن، اللهم إلا بوادر فى الأفق، تشير إلى إلغاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون لتحل بدلًا منه الهيئات الإعلامية التى نص عليها الدستور.
– ورغم أن الرئيس عبد الفتاح السيسى، صدق بالفعل مؤخرا على القانون رقم ٩٢ لسنة ٢٠١٦ بإصدار قانون التنظيم المؤسسى للصحافة والإعلام، بعد إقراره من مجلس النواب، فإن الأمر فى ماسبيرو لم يزل غامضا، وتضرب العشوائية توجهات السياسات المتبعة داخله، جراء غياب رؤية واضحة لما ستؤول إليه كثير من الأمور فى ذلك المبنى المسئول عن صياغة استراتيجية الدولة فى عقول وأذهان الرأى العام. على الرغم من أن المادة الثانية من القانون تنص، حسب ما نشر بالجريدة الرسمية، على أن يلغى القانون رقم ١٣ لسنة ١٩٧٩ فى شأن اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والباب الرابع من القانون رقم ٩٦ لسنة ١٩٩٦ بشأن تنظيم الصحافة.
– فى حركة موازية، نجد الإعلام الخاص يشيع فى المجتمع حالة من الضبابية، ما بين رؤى تنتقص من مساحة حرية الرأى والتعبير المتاحة له، وما بين رغبة محمودة فى الحفاظ على الدولة من السقوط! وفى كل طريق تجد المزايدة غالبة، والمغافلة أيضا حاضرة؛ إذ ليست للدولة «المدنية الحديثة» التى نبتغيها أن ترتجف من بعض الأصوات المعارضة، وكما نلتمس أعذارا للدولة وهى تحبو على طريق الديمقراطية الوليدة، فعلى الدولة أن تعذر أصواتا لطالما أطبقت الشفاة على مدى عقود طويلة، فتدعها تنطلق لتراكم خبرات حتمية إلى أن تصوب مسارها، فى الوقت نفسه الذى تسمح فيه لأصوات لطالما ارتفعت فى عهد مبارك! بحيز كبير من اختلاف الرؤى ندلل به أننا على الطريق الصحيح نمضى قدمًا، وأننا أبدًا لم نختزل الحرية فى فريق من المؤيدين، فنسقط عن الدولة المدنية الحديثة التى ننشدها أهم ما يميزها وهو «التعددية السياسية»، فواقع الأمر أن التعددية السياسية الحقيقية تجد منطلقها فى تعدد الأصوات المخاطبة للرأى العام، وليس فى عدد أو كثرة الأحزاب؛ ذلك أن نظام مبارك أبدا لم يفتقد وجود العديد من الأحزاب، وكما نؤكد دائما أن كثرة الأحزاب ليست دليلًا على ديمقراطية الحكم، فإن الأمر ينعقد فى تعددية فكرية، علينا أن نسمح بها، وإن جنحت، ونحاورها وإن جمحت، ما دام الأمر فى سياقه الوطنى.
– والحال على هذا النحو، يؤكد شدة حاجتنا إلى رؤية وطنية أكثر ثقة فى قدرتنا على إنجاز «الدولة المدنية الحديثة»، بجميع سماتها وقيمها ومبادئها، لا نخشى فى ذلك عثرات ليس لنا أن نتخطاها قبل أن نراكم تجارب وطنية من شأنها وحدها إعادة الثقة فى قدرة الرأى العام على إجراء فرز وطنى دقيق يستبين منه طريقه.
وفى الأسبوع المقبل بإذن الله نواصل رصد موقعنا على طريق بناء «الدولة المدنية الحديثة»، وما تتمتع به من إعلام قادر على إنعاش المجتمع، وبث الحيوية فى قطاعاته المتعددة، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وفتح آفاق بعيدة للتعددية السياسية الحقة.