بقلم – إيمان عبدالمؤمن:
مسلسل «خاص جدًا» حالة خاصة جدًا، نوع نادر من الدراما الاجتماعية والنفسية العاقلة، الهادئة، الراقية، التى جسدت فيها الفنانة «يسـرا» بحرفية ونضج دور الطبيبة النفسية «شريفة»، الناجحة، المعروفة، التى تتفاعل بإيجابية مفرطة مع مشاكل كل المحيطين بها، تشاركهم فى وضع حلول لها، تقف إلى جوارهم، تداوى شروخهم اليومية، حينما تطاردهم أفاعى الفقر والجهل والمرض والخرافة فى مجتمع مهزوم، يضم طبقات وثقافات متباينة، لا تخلو من مشاعر الاكتئاب والانكسار والإحباط.
تغوص أحداثه بقوة فى أعماق دفاتر أحوال الناس وهمومهم، تنشغل بآلامهم ومتاعبهم، تناقش أمراض المجتمع وانتكاساته، داخلهم وخارجهم، تعكس رغبة صادقة فى الإصلاح الحقيقى، تحاول تقديم حلول عاجلة للعديد من الأزمات الاجتماعية والنفسية، التى تتعرض لها كل أسرة مصرية، مسلمة وقبطية؛ بمختلف فئاتها، ثقافاتها، طبقاتها، من خلال مشرط «طبيبة نفسية» بارعة، تجرى جراحات نفسية ناجحة لحالات بالغة التعقيد، وتواجه فى ذات الوقت تغيرات وصدمات لا تنتهى فى حياتها مع كافة أفراد أسرتها وأصدقائها ومعارفها.
تلعب «شريفة» طول الوقت دور «الصندوق الأسود»، الذى يحتفظ فى داخله بأدق تفاصيل أسرار كل من حوله، وقد أطلقت عليها هذا «الاسم» منذ صغرهما صديقة عمرها القبطية «ماجدة»، التى تقدمت بها سنوات العمر دون أن تتزوج؛ لأنها ظلت تحب «محمد» المسلم، وهو يحبها، رغم افتراقهما لسنوات طويلة؛ بسبب معارضة والديها لزواجهما، ظنًا منهما أنه يتعارض مع تعاليم الديانة القبطية.
الطبيبة شخصية قوية وصبورة ومتسامحة وناضجة ومثقفة وواعية، قادرة على حب الآخرين، واحترامهم، وفهمهم، وتقبلهم كما هم، فكل الناس لديها كائنات جميلة، وكل البشر مقبولون، وكل إنسان قريب إلى القلب، مُستحق مشاعر التقدير والود والرحمة، التى تغفر كل شىء، ولا تجلد أبدًا بسياط الاتهام أو التوبيخ أو التأنيب.
أتصور أن كل إنسان يمكنه مشاهدة تصدعات نفسه جزءًا أو تفصيلا فى ملامح كل شخصية فى أحداثه المتشابكة، التى تكشف بوضوح أن الإنسان لا يفشل إلا إذا كان لديه الإصرار على الفشل، ولا ينجح إلا إذا كان لديه الإصرار على النجاح، ورغم اتفاق الجميع على الرغبة فى حب النجاح، وكره الفشل، إلا أننى لا أبالغ حين أقول إن العديد منا ليس لديه هذه الإرادة الصارمة على تحقيق النجاح.
مشهد «حفل الزفاف» الأخير لا ينسى، وهو الأجمل والأروع؛ زفاف الطبيعة، بعذوبة ألوانها المشرقة، وزفاف جميع الأبطال، بسحر إطلالاتهم المتألقة؛ الابنة، الأم، الأب، الأخ، الجدة، الصديق، الصديقة، مدبر ومدبرة المنزل، أبنائهما، ما عدا «ماجدة» وهى صديقة العمر «القبطية»، التى ظلت عينيها مُتشبِّثة بأفق عدالة السماء، وكأنها تبعث برسالة إلى والديها ولنا وكل العالم، وهى تشاركهم الفرح، تقول فيها: سيتحقق الحلم ذات يوم رغم أنف كل شىء، فلماذا إذن لا تتركون كل الدنيا تُحِب؟!
تتأمل «شريفة» كل الحضور فى حفل العُرْس الكبير، المُبهج ، وتَضْحك من القلب، وتهمس: «كلنا بنحب، وبندور طول الوقت عن حاجة واحدة، واحدة بس، هو إننا نبقى سعداء، وبعد ما فكرت، وبحثت، وفتشت، ونقبت، وصلت لروشتة العلاج، وهى أن طول ما إحنا عايشين، لازم يكون عندنا دايمًا أمل ويقين، إن أحلى حب لسه ما عيشنهوش، أحلى طعم لسه ما دقنهوش، أحلى مكان لسه مروحنهوش، أحلى كلام لسه مقولنهوش، أحلى يوم برده لسه ماعيشنهوش، ولازم نفضل دايمًا مستنيين حاجة حلوة جاية، وحتشوفوا إنها لسة جاية».
اتسم سيناريو «تامر حبيب» بالحيوية واللباقة والتلقائية فى أول عمل يكتبه للدراما التليفزيونية، ونجح فى الكشف عن تفاصيل نفوس شخصيات متنوعة، رصد ردود أفعالها، ما يتصارع فى داخلها من تناقضات مذهلة، تثير التساؤل، الحيرة، الدهشة.
أضفت موسيقى «خالد حماد» التصويرية دلالة ومعنى وبُعدا إنسانيا ليس له حدود، أما لقطات وانتقالات مدير التصوير «سامح سليم» فكانت معبرة ورشيقة وناعمة ومتناغمة وفائقة الحساسية مع الأحداث.
هو أول تجربة إخراجية فى مجال الدراما للمخرجة الشابة «غادة سليم»، التى أثبتت اختلافها وتفوقها فى تقديم بانوراما بصرية، شديدة الجمال والخصوصية والإبهار، بتوظيفها ديكورات أنيقة وبسيطة وغير تقليدية، فضلاً عن قدرتها على إعادة اكتشاف ورفع الطاقات التمثيلية لدى كل أفراد فريق العمل، كما أكد المنتج «جمال العدل» أنه صاحب رسالة مجتمعية واعية.
إنها دعوة مجانية تمامًا، خاصة جدًا، إلى الحب والأمل والحياة، دعوة إلى مراجعة الذات، وإعمال العقل، واحترام جميع الأديان، وتشبيكها، وتزاوجها، ومصالحة الذات، والإيمان بقوة مشاعر الحب، وقدرتها على الاستمرار والصمود والتجدد، والتمجيد لقيم العدل والحرية والتسامح والمساواة بين البشر كافة، دون أى تمييز؛ طبقى، عرقى، دينى، لونى … إلخ.
نحن لا ندرك فى أغلب الأحيان، أننا نظلم أنفسنا والآخرين، دون ذنب، حينما نتصور كذبًا وغشًا طوال الوقت أننا نبنى مجتمعًا، ونحن فى حقيقة الأمر نهدر كل طاقاته، وإبداعاته، وتجلياته، صانعة أقوى وأعظم الحضارات الإنسانية القديمة، التى ما زالت شامخة حتى الآن.
إنه بلا شك مستنقع الفقر الراكد فى الفكر والثقافة والحلم والخيال، القابع فى العقول والضمائر والنفوس والقلوب، مثل القمامة المنتشرة الآن فى كل طرقات المدن الكبيرة والصغيرة والقرى، ونحتار فى كيفية القضاء عليها! مما يدفعنى إلى التساؤل دومًا: هل حقًا نحن مجتمع يريد الدخول فى قرن جديد مشرق؟!