إحنا اللى دفناه سوا.. تلك المقولة الرائجة، يرددها المصريون على اختلاف شرائحهم الاجتماعية، للتدليل بها على أنهم يعرفون السر إذا شطح خيال المتحدث بعيدًا عن الحقيقة، كما أنها تشير إلى قدرتهم وبراعتهم فى وصف الأشياء بما يليق بها من مزاح وسخرية.
داهمتنى إشارات المثل المشحون بالدلالات العميقة، عندما دفعنى فضولى لمشاهدة بعض القنوات الفضائية، لمعرفة ما يدور فى برامجها، وجدت أن مذيعيها يعيشون فى عالم لم أجد له فى مفردات اللغة وصفا أو اسما ملائما له، لكن يمكننى أن أقول إنهم يعيشون فى عالم غير الذى نعيش فيه ويعيش فيه بقية البشر باتساع الكون، كانت المناقشات تدور حول الأوضاع فى مصر. بالمناسبة كل البرامج موجهة ضد مصر، المناقشات الساخنة بين الضيوف مشحونة بالشد والجذب، فلا عجب إذا رأيت أحد طرفى الحوار يمنح نفسه احتكار صناعة الثورات، فينظر له الآخر ساخرا بإيماءات تشى بمدلول المثل الشعبى الرائج، كما أننى وجدت الخلاف بين المتحاورين يدور فى أمور عبثية، ظننت للوهلة الأولى أننى أشاهد بثا مباشرا من العباسية أو الخانكة، عندما سيطر اليقين على مجريات الحديث بأن الأمر انتهى أى «قضى الأمر الذى فيه تستفيان»، بما يعنى أن المشاورات بينهم على مستقبل الدولة ليست فى إسطنبول، لكنها تجرى على أبواب قصر الاتحادية ووسط حشود عشرات الملايين الزاحفين من كل أرجاء البلاد، وجميعها يدور حول تساؤلات محددة، هل يكمل «مرسى» مدته الرئاسية لحكم مصر، أو يتولى لمدة قصيرة، أم يتركون القرار له، حسب رغبته، سواء فى الاستمرار أو إجراء الانتخابات؟ واشتد الخلاف على أمور أخرى، هناك فريق يرى الأخذ بمبدأ التسامح مع الذين انحازوا إلى ثورة ٣٠ يونيو، وفريق آخر يرى ضرورة تطبيق قانون العدالة الانتقالية عليهم لمحاسبتهم على تأييد السيسى وانتخابه رئيسًا للبلاد. فى سياق اليقين الذى يتحدثون به، خرجت بعض المسميات التى تشى بوجود كيانات سياسية كبرى، قادرة على تغيير خريطة الكون وليس مصر وحدها، مثل المجلس الثورى، و«يناير يجمعنا»، والمسمى الأخير هدفه مغازلة كل طرف للآخر من أجل الاصطفاف للقيام بثورة، وهذا فى حد ذاته يدعو للعجب، تارة يؤكدون بأن الأمر انتهى والجحافل تقف على باب قصر الاتحادية، وتارة أخرى يتحدثون عن ضرورة الاصطفاف للقيام بثورة لإعادة مرسى، وهنا أتساءل.. هى اندلعت ولا لسه؟
الإخوان يرون أنهم الأحق بالثورة، وأتباع البرادعى وأيمن نور من مدعى الليبرالية، يشيرون بالغمز واللمز، بأنهم جميعا كانوا أدوات لتنفيذ أجندة الفوضى الخلاقة، بما يعنى أن الحكاية «مفيهاش ثورة»، والإخوان يردون بالإشارات ذاتها «الغمز واللمز» على البرادعى عندما يؤكد أنصاره أنه ملهم الثورة وأيقونتها، من الآخر كل الإشارات تخوين بعضهم للبعض على طريقة «إحنا اللى دفناه سوا».
أما أصل المثل الشعبى فمحفور خلف تجاعيد العجائز من النساء والرجال فى الريف يتداولونه كتعبير عن درايتهم بالحقيقة دون تزويق أو تزييف، ورغم تعدد الروايات حول ظاهر المثل بحسب السماع، إلا أن جوهره يفيد بأن اثنين من اللصوص المحترفين كان لديهما حمار، يستغلونه فى حمل مسروقاتهما من القرى والنجوع، ونقلها إلى مكان بعيد لاقتسامها فيما بينهما، وذات يوم وبينما كانا فى طريقهما إلى مكان اقتسام ما سرقاه، تعب الحمار من كثرة الشقاء وثقل الأحمال، جلسا بجواره ينعيان حظهما التعس، وبعد قضاء ليلة قاسية وهما نائمان بجواره، نفق الحمار، فحزنا على فقدانه حزنًا شديدًا، فقد كان لهما السند، المعين فى حمل ما يقومان بسرقته من غلال ومتاع، فضلا عن حملهما ونقلهما إلى الأماكن البعيدة. قررا دفنه فى عمق الصحراء وهما يبكيان عليه ويذكران مآثره وشقاءه من أجل راحتهما، مر عليهما بعض الرحالة من رعاة الغنم وقاطنى الصحراء، ووجدوهما فى حالة البكاء والحزن الشديد، فظنوا أن المدفون فى القبر شيخ جليل أو ولى له كرامات، فأعطوهما من الزاد والمال رأفة بحالهما، وتركوهما وبعد سويعات قليلة مر آخرون ووجدوهما يقفان على ذات القبر وهما يبكيان بحرقة، أيضًا، ظن المارة الجدد أن المدفون فى القبر له شأن ومكانة، فمنحوهما بعض المال تصدقا، وهكذا مر آخرون وآخرون، وراح الجميع يتناقلون سيرة وكرامات الولى المدفون ويذكرونها للناس على أطراف القرى المتاخمة للجبل، فتسارع البسطاء الى المقام للتبرك بالولى، ففرح اللصان فرحا شديدا لما عاد عليهما من البكاء على الحمار، فوضعا على القبر شاهدًا وشيدا له خيمة وراحا يذكران كراماته، وبمرور الأيام ومع تزايد عدد الزوار الذين يقصدونه، استبدلا الخيمة بمقام وضريح يليق به وبالعائد منه، وجلسا بجواره يتلقيان الصدقات والنفحات والنذور من مرتادى المقام.
ذاع صيت الولى الوهمى فى القرى والنجوع وصار قبلة للمدروشين، ومزارا للبسطاء ممن وثقوا فى كراماته المزعومة، معتقدين أن الطواف حوله يفك السحر، والتبرك به يزيل الغمة، ويفك عقدة العانس، ويجلب لها الحبيب، ويشفى المريض، ويجلب الرزق، فصار له مولد تقام فيه حلقات الذكر وتشد له الرحال ويتقرب منه أصحاب السلطان، يمنحون العطايا للقائمين عليه وعندما كثرت الهبات، اختلف اللصان على توزيع الأنصبة، فقال أحدهما: أنا الأحق بإرث الولى، فرد الثانى قائلا: يا راجل عيب عليك.. دا إحنا اللى دفناه سوا، فى إشارة منه إلى أن المدفون حمار وليس وليًا.