قبل بضع سنوات، أذاعت شبكة تليفزيون «آر تى» الفرنسية الألمانية، فيلما وثائقيا، أثار ضجة إعلامية، مصحوبة بردود أفعال واسعة فى أوروبا، لما أحاط بمضمونه من إشكاليات إنسانية وأخلاقية وقانونية، ضربت فى مقتل، ما ترسخ فى الأذهان من أوهام، عن مصداقية الحكومات الأوروبية، كما نسفت الشعارات البراقة، المشحونة بالادعاءات الكاذبة، التى ظلت تروج لها تلك الحكومات، بزعم الدفاع عن حريات الشعوب وحقوق الإنسان.
عنوان الفيلم الوثائقى جاء ملائما لمضمونه، ومعبرا عن دلالاته، الصادمة، الكاشفة عن مخططات وسيناريوهات، جرى إعدادها ببراعة فى كواليس أجهزة الاستخبارات الغربية، لإدارة مشاهد الفوضى فى العديد من البلدان، عبر تكتيكات متقنة لصناعة الأحداث الصاخبة، والتحكم فى انتقالها على الأرض من مكان لآخر، بالضبط مثل تحريك قطع اللعب على رقعة الشطرنج.
«كش ملك.. استراتيجية الثورة» هذا هو اسم الفيلم الوثائقى، الذى كشفت من خلاله المخرجة الأمريكية، التى تعيش فى النمسا «سوذان براند ستاتر»، الأساليب القذرة التى تلجأ إليها أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوروبية، بتوجيه ودعم من حكوماتها، لصناعة الخراب وإسقاط الدول تحت لافتة الثورة من أجل الحرية والتخلص من أنظمة الحكم الديكتاتورية.
أذاحت «مخرجة الفيلم» النقاب عن كيفية صناعة القلاقل داخل البلدان المستهدفة، عبر استخدام الواجهات الممثلة للمعارضة والقوى الاحتجاجية، مرورا بـ«الجمعيات الحقوقية»، لإسقاط أنظمة الحكم، والتمهيد للصراع على السلطة بين الفصائل المتعارضة أيدلوجيا، بما يتيح للشركات العابرة للقارات الظهور على المسرح، لنهب الثروات وإفقار الشعوب وإذلالها والسيطرة على مقدراتها، وتحقيق الأهداف المرجوة من نشر الفوضى.
فى مقدمة تلك الأهداف وأكثرها أهمية، التدمير العمدى والمنهجى للبلدان، ثم إسقاط أنظمة الحكم، التى دعت المصالح الغربية، ضرورة التخلص منها وإن كان من بينها أنظمة عميلة لها ومطيعة لأوامرها.
اعتمد الفيلم فى توثيق الوقائع، على مقابلات شخصية مع ضباط بأجهزة الاستخبارات الغربية، ممن أوكلت إليهم مهام زعزعة الاستقرار فى «رومانيا» عام ١٩٨٩، عندما أرادت حكومات بعض الدول الأوروبية، التخلص من الرئيس «نيكولاى شاوسيسكو»، عبر مواجهات دامية، أدت لسقوط آلاف الضحايا على أيدى قناصة محترفين، جرى إعدادهم بعناية، لارتكاب جرائم القتل والاغتيالات فى صفوف المتظاهرين، لتوسيع دائرة التحريض الإعلامى والسياسى ضد «شاوسيسكو»، واتهامه بقتل شعبه، بما أفقده أى تعاطف داخلى أو خارجى.
أدلى عدد من ضباط الاستخبارات الأوروبية بشهاداتهم الصادمة عن الأدوار الغامضة التى لعبوها فى رومانيا، لكننى سأسرد فقط شهادة واحدة، وردت على لسان مسئول سابق فى المخابرات الفرنسية، اسمه «دومينيك فونفيل»، الذى كان مسئولا رفيعا بـ«الإدارة العامة للأمن الخارجى» حيث تجاوزت تفاصيل شهادته، حدود ما جرى فى رومانيا من أحداث انتهت بسقوط شاوسيسكو، وامتدت إلى مساحات شملت ضمنيا ما جرى عقب ذلك فى بلدان أخرى، حيث تشابهت السيناريوهات بصورة تصل لحد التطابق سواء فيما يخص الدور الذى تقوم به منظمات المجتمع المدنى من تشويه لصورة الواقع، والتحريض فى وسائل الإعلام وقتل المتظاهرين مرورا بصناعة الأكاذيب.
شرح «فونفيل» باستفاضة، كيفية تنظيم الثورات فى البلدان المستهدفة، وأساليب ركوب موجتها بالسطو عليها، وكذلك الدور الذى يلعبه عملاء المخابرات فى زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى، لكن أخطر ما تناوله فى شهادته، المهام التى تؤديها بجدارة منظمات المجتمع المدنى الممولة من الأجهزة والمراكز البحثية التابعة للمخابرات الأمريكية، حيث يقوم المسئولون عن المنظمات، بإعداد التقارير المتضمنة انتهاكات السلطة فى الدولة المستهدفة لحرية التعبير وحقوق أصحاب الرأى من المعارضين، فضلا عن الدور المحورى لوسائل الإعلام والصحافة الغربية الرسمية، باعتبارها الأدوات الأساسية الموجهة لأغراض تضليل الرأى العام المحلى والدولى، عبر «فبركة» الصور والفيديوهات لضحايا يسقطون أثناء التظاهرات برصاص القناصة، وترويجها الفيديوهات كدليل على وجود نظام ديكتاتورى يقتل شعبه.
تحدث رجل الاستخبارات الفرنسية بشفافية غير مسبوقة فى تاريخ العمل السرى، عن الدور المركزى الذى يلعبه الإعلام فى تشويه نظم الحكم.
كان هذا من الحالات النادرة التى تبث فيها إحدى القنوات التليفزيونية الرئيسية فى أوروبا، فيلما وثائقيا يروى جزءا من الأسرار السوداء، الفاضحة، لادعاءات الحكومات الغربية عن نشر الديمقراطية فى الدول المحكومة بالدكتاتوريات، وهى المزاعم التى تبين بفعل التداعيات، أنها مجرد شعارات، خادعة، يتم الترويج لها فى إطار استراتيجية صناعة القلاقل المبنية على عدة خطوات يتم تنفيذها بدقة، بحسب عميل الاستخبارات الفرنسية.
فالخطوة الأولى تبدأ، بتحديد قوى المعارضة داخل الدولة المستهدفة أو عناصرها المعروفة التى جرى إعدادها فى الخارج، وهذا يتطلب الآتى:
١ـ وجود جهاز استخباراتى قوى جدا، يستطيع انتقاء أشخاص معارضين، يتمتعون بمصداقية عالية، كافية للتأثير على الناس.
٢ـ تحريض رموز المعارضة ضد أنظمة الحكم، بالتشجيع على الحشد الشعبى بالتظاهرات وتوسيع دائرة الاحتجاجات.
واصل رجل الاستخبارات قوله: «من الضرورى أن يموت بعض المواطنين أثناء الاحتجاجات، كمبرر أساسى لإشعال الفوضى وإسقاط الأنظمة، ثم يتم استحضار رأسمالية السوق الحرة».
على خلفية عرض الفيلم الوثائقى، قامت الدنيا ولم تقعد فى أوروبا، خاصة فى أوساط الرأى العام الفرنسى الذى شعر بالخجل من تورط حكومته مع الولايات المتحدة فى تدبير وصناعة الأعمال السرية القذرة.
الغضب العارم دفع، وقتها صحيفة «ليموند دبلوماتيك»ـ الفرنسية واسعة الانتشارـ أن تفرد مساحات واسعة للنقاش حول تلك القضية، وما أحاط بها من إشكاليات قانونية وأخلاقية مرتبطة بالقيم الإنسانية التى تنادى بها المجتمعات الغربية.
القراءة الدقيقة لمضمون الاعترافات، تشير إلى أن الدور الذى تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوربيون، لزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى فى المنطقة العربية، لا يخرج عن كونه مخططات استراتيجية، لتفتيت الدول وإسقاطها والسيطرة على مقدرات الشعوب وثرواتها، وإن اختلفت التكتيكات حسب المعطيات المتاحة للتعامل مع كل دولة، وفق واقعها السياسى.
الفيلم والغضب الأوروبى الذى سجلته الصحيفة الفرنسية حول اعترافات ضباط المخابرات، يشيران بجلاء على أن قتل المتظاهرين فى ميدان التحرير، كان مدبرا، باعتباره ضمن تكتيكات نشر الفوضى، بما يعنى أن القناصة جزء من تلك التكتيكات سابقة التجهيز.. فما هى علاقة مبارك؟
يا ليت قومى يفهمون!!