منتصف الأسبوع الماضي، قضت محكمة النقض المصرية ببراءة الرئيس الأسبق حسني مبارك من تهمة قتل المتظاهرين في أحداث 25 كانون الثاني (يناير) 2011. وكانت المحكمة أعلنت أيضاً براءة حبيب العادلي، وزير الداخلية في عهد مبارك، من دماء 850 شخصاً سقطوا خلال الصدامات الدموية بين قوات الأمن والمتظاهرين.
واتهم محامي الدفاع فريد الديب أثناء المحاكمة عناصر من جماعة «الاخوان المسلمين» و «حماس» بالتسلل الى القاهرة عبر الأنفاق. وادّعى أن هؤلاء استخدموا أسلحة مهربة من إسرائيل بغرض القيام بعمليات قنص ضد الجماهير المحتشدة في الساحات العامة. كما روى للمحكمة أن عناصر تابعة لـ «الاخوان» استخدموا مادة سوداء لطلي زجاج سيارات الشرطة بحيث حجبت عنهم الرؤية، الأمر الذي أدى الى دهس بعض المتمردين عن غير قصد.
وتدّعي وثائق «ويكيليكس» أن وزير الداخلية حبيب العادلي أطلق سراح 23 ألف سجين وأرسلهم لضرب المتظاهرين ومقاومتهم في الشوارع. وبحسب وثيقة أخرى، فإن المفرج عنهم قاموا بمصادرة بيوت سكنية وبترويع المتظاهرين كنوع من الانتقام لسنوات السجن والتعذيب.
في أثناء تلك الفترة، أخذت موجة الانتقادات ضد مبارك، وزوجته سوزان ونجليه علاء وجمال، تتسع وتنتشر. واتخذ المجلس العسكري الأعلى سلسلة إجراءات أمنية بهدف ضبط الوضع الداخلي ومنع المتظاهرين من الاعتداء على الرئيس وأفراد عائلته. علماً أن المجلس اتخذ قراراً بمنع مبارك من مغادرة البلاد، ومن استخدام طائرته «الايرباص» الجاثمة في مهبط قرب القاهرة.
خلال تلك الفترة العصيبة، أبلغ النائب العام الانتربول عن هرب صاحب الملايين حسين سالم، مستخدماً طائرته الخاصة للسفر الى دبي وجنيف ولندن وإسبانيا. ويبدو أن الدولة المصرية سمحت له بالعودة الى القاهرة، بعدما أعاد للخزينة رقماً خيالياً يُقدَّر بنصف ما جمعه من الشركات الوهمية التي أسسها.
ويتذكر المصريون أن حدة التظاهرات هدأت نسبياً عقب تنحي حسني مبارك في 11 شباط (فبراير) 2011. وقالت صحف أميركية في حينه إن الرئيس مبارك خضع لضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل، لأنهما شجعتا التظاهر بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي والإضرار بمكانة مصر العربية والدولية، وإرغام الرئاسة على إقامة علاقات تطبيع كاملة وتعاون تام مع إسرائيل.
وحقيقة الأمر أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما اتصل هاتفياً بالرئيس حسني مبارك، ليطلب منه الاستجابة لرغبات الشعب المتذمر، والإسراع في تقديم استقالته. ولما حاول مبارك الاعتراض على تدخل أوباما في شأن موضوع يخص الحكومة المصرية، حذره من مغبة تجاهل «الإخوان المسلمين» الذين ملأت عناصرهم شوارع القاهرة والإسكندرية. وهكذا انتهت المكالمة بغضب الاثنين معاً… ثم تبيّن بعد تنحي مبارك أن أوباما كان داعماً ومؤيداً لانتخاب محمد مرسي، وكل مَنْ اختاره لمعاونته من جماعة «الإخوان المسلمين». والسبب – كما أورده المحللون – أنه كان يريد لمصر حكماً شبيهاً بحكم حزب «العدالة والتنمية» في تركيا، أي حكماً يطبق نهج الإسلام المعتدل. وفي تصوره أن النمو الذي تحقق في عهد رجب طيب أردوغان، يمكن أن يتحقق في مصر شرط منح مرسي الفرصة لبناء مؤسسات اقتصادية وسياسية شبيهة بالمؤسسات التي بناها أردوغان في المرحلة الأولى من عهده.
ويميل جيفري غولدبرغ، المراسل الذي رافق أوباما في رحلاته الخارجية، الى الإعتقاد بأن الرئيس كان مقتنعاً بالاتفاق الذي وقعه مع طهران، على رغم إدراكه العميق للنزعة الدينية التي يعتنقها الملالي. أي النزعة التي اختارها الشعب عندما استبدل حكم الشاه بحكم خصومه الخمينيين.
ولقد اعترف مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي، بأن الإدارة الأميركية أيّدت تيار الملالي لأسباب تتعلق بموقفها من الاتحاد السوفياتي. علماً أن الطلاب في طهران احتلوا السفارة الأميركية واحتجزوا موظفيها (1979). ولكن هذا كله لم يمنع كارتر من التخلي عن مساندة الشاه، في مقابل التكيف مع ثورة الخميني التي استغلها لزعزعة النظام السوفياتي من الداخل. وكتب بريجنسكي بهذا الشأن يقول إن كارتر كان يهدف الى خلق رباط ديني بين ثمانين مليون مسلم داخل الاتحاد السوفياتي مع الثورة الخمينية المجاورة بحيث تؤثر تداعياتها على أمن الكرملين.
وفي كتاب أصدره الزميل أحمد أصفهاني فصلٌ يشير الى كيفية انتصار الإسلام السياسي السنّي ضد السوفيات بواسطة المجاهدين في أفغانستان، وكيفية انتصار الإسلام السياسي الشيعي في إيران ضد الشاه. ومعنى هذا أن سلاح العنف في الموقعَيْن وظف الدور الديني لمصلحة الدور السياسي.
ويُستدَل من مراجعة طبيعة الحقب التاريخية في الشرق الأوسط أن سياسة واشنطن كانت تخضع لظروف المرحلة، والمثال على ذلك أنها دشنت مرحلة الانقلابات العسكرية في المنطقة، بدءاً من إنقلاب حسني الزعيم في سورية وانتهاء بانقلاب معمّر القذافي في ليبيا. وفي كتاب «لعبة الأمم» شرح مستفيض عن دور مؤلفه مايلز كوبلاند في عمليات اللعب!
وهكذا انتقل دور الإدارات الأميركية من تأييد الأنظمة العسكرية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية الى تشجيع الأنظمة الدينية بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي، والبحث عن بديل في الإسلام السياسي.
السؤال المطروح في مصر حالياً يتعلق بأهمية توقيت صدور حكم براءة حسني مبارك، ومدى تأثير أنصاره على الساحة السياسية.
على هذا السؤال يجيب أحد الوزراء بالقول: كان من المستهجَن إطلاق سراح مبارك في وقت كان القضاء مشغولاً بمحاكمة «الإخوان المسلمين» وملاحقة أنصارهم في كل مكان. ولما انتهت عمليات الاعتقال والمحاكمات التي حصدت 1400 قتيل، وسجنت 40 ألف محازب، مع إغلاق عشرات المساجد التي لا تخضع للرقابة. عندها فقط قررت الدولة إقفال ملف حسني مبارك، بعدما صدر الحكم بسجن الرئيس المعزول محمد مرسي مدة عشرين سنة. وقد أدانته محكمة النقض في أحداث العنف والقتل التي وقعت أمام قصر الاتحادية الرئاسي في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2012.
واختتم الوزير جوابه بالتحدث عن أنصار مبارك، وطريقة انضمامهم الى صفوف رجال العهد بغرض الحفاظ على مصالحهم والاحتفاظ بمكاسبهم. وفي تقديره أن «الحزب الوطني»، الذي استظل به المنتفعون من عهد مبارك، قد أصابه الوهن وأقفلت أبواب مكاتبه في العاصمة والمحافظات.
حمدين صباحي، رئيس «حزب الكرامة»، يطرح نفسه قائداً للناصريين الذين رفعوا شعار تحرير فلسطين وإحياء النظام الاشتراكي. وهو يعتبر نفسه ممثلاً لتيار المعارضة في مصر. أما بالنسبة للرئيس عبدالفتاح السيسي، فقد رفض إنشاء حزب سياسي، معتبراً نفسه جندياً في خدمة الوطن، وأن مهمته لم تنتهِ بعد!
الأسبوع الماضي، زارت المستشارة الألمانية انغيلا مركل القاهرة حيث أجرت محادثات مع الرئيس السيسي قبل اجتماعها ببطريرك الأقباط تواضروس الثاني وشيخ الأزهر أحمد الطيب. وأخبرها شيخ الأزهر أنه حريص على تطمين كل مؤمن، سواء كان مسيحياً أو مسلماً، بأن مصر تحافظ على ممارسة مبدأ العيش المشترك داخل المجتمع الواحد. وقال لها أيضاً: إن الأزهر الشريف يرفض كل محاولة من شأنها التفرقة بين الديانات، أو إظهار المسيحيين وكأنهم مستهدَفون في أوطانهم.
جاء هذا الحديث لتطمين المستشارة عقب استيضاحها عن نزوح أكثر من 150 أسرة مسيحية من مدينة العريش بسبب اعتداءات مسلحين تابعين لتنظيم «داعش».
وفي حديثه عن متاعب مصر الأمنية، شدد الرئيس السيسي أمام المستشارة الألمانية على ذكر الإرهابيين الذين تسللوا الى سيناء من مختلف دول المنطقة، أثناء فترة حكم محمد مرسي. وأخبرها أيضاً أن الجيش النظامي ركز جهوده على ضبط الحدود مع غزة ومع ليبيا، ولكنه وجد صعوبة بالغة في ضبط كل الحدود. والسبب أن مساحة شبه جزيرة سيناء تبلغ أكثر من 61 ألف كيلومتر مربع. أي ما يعادل ستة في المئة من مساحة مصر، وأكبر من مساحة لبنان بست مرات تقريباً.
لكن هذا كله لم يمنع السيسي من تخصيص جهود إضافية من أجل منع التنظيمات الإرهابية من فرض نفوذها المسلح. وكان واضحاً من قرار تدمير الأنفاق الواسعة، أن الجيش حريص على إبعاد تنظيم «داعش»، وحلفائه من أمثال زعيم «أنصار بيت المقدس» الذي أعلن سنة 2014 مبايعة أمير تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي.
قبل فترة قصيرة بلغ عدد سكان مصر مئة مليون نسمة. ومعنى هذا أنها أصبحت أكثر اكتظاظاً بالسكان من تركيا (80 مليوناً) ومن إيران (82 مليوناً). وكان من الطبيعي أن يقلق هذا الرقم المتنامي باستمرار المسؤولين في القاهرة، خصوصاً أن عدد الشبان يتعدى الستين في المئة بينهم 65 في المئة عاطلون من العمل.
وفي كل صباح يتسلم الرئيس عبدالفتاح السيسي التقارير الأمنية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، الداخلية والخارجية. وقبل أن يغادر الى المنزل عند منتصف الليل، يجد العزاء في العبارة المعلقة فوق مكتبه برئاسة الجمهورية، والتي تقول: إن ينصركم الله فلا غالب لكم.
* كاتب وصحافي لبناني