اخترت عنوانًا لهذا المقال المقولة الشهيرة للإمام محمد عبده عندما ذهب لمؤتمر باريس عام ١٨٨١ ثم عاد من هناك إلى مصر، وقال قولته الشهيرة:
«ذهبت للغرب فوجدت إسلامًا ولم أجد مسلمين.. ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكننى لم أجد إسلامًا!!».
هذه المقولة انتشرت وشاعت وصارت ترددها الأفواه كما تردد الأمثال والحِكم والمواعظ.. هذه المقولة فى حاجة إلى وقفة لتأمل معناها ومغزاها.. نحن فى حاجة إلى فهم ما كان يعنيه الإمام محمد عبده.. هل كان يقصد أن الناس فى الغرب – رغم كونهم غير مسلمين – يسلكون فى كل مناحى حياتهم وفقًا لنسق من القيم الأخلاقية الرفيعة؟! فيحترم بعضهم بعضا، ويؤدون عملهم بإخلاص ودقة وأمانة، ولا ينال أحدهم من حرية الآخر، لذلك نجد التطور والتقدم والحداثة فى تلك البلدان الغربية.. بينما نجد الفوضى وعدم الشعور بالمسئولية والتراجع والتخلف فى بلداننا الشرقية.. ومن ثمًّ عقد محمد عبده مقارنة سريعة بين أخلاق الأوروبيين، وأخلاق المسلمين فوجد أن الأوروبيين يتخلقون بأخلاق الإسلام فى معاملاتهم وأعمالهم على حين أن المسلمين بعيدون عن أخلاق دينهم!!
إذا صح نسب هذه العبارة إلى الشيخ الإمام محمد عبده؛ فعلينا أن نقول بوضوح إن الرجل قد جانبه الصواب، وأخطأ فى تقديم التفسير الصحيح لما شاهده هنا وهناك!!.. هو لم يدرك أن ما شاهده من صلاح الحال فى الغرب ليس مصدره الإسلام وتعاليمه.. وأن سوء الأوضاع فى بلادنا ليس مرده غياب تطبيق تعاليم الإسلام.
إن الإمام محمد عبده – مع احترامنا الشديد له – لم يدرك أن سبب رقى أخلاق الأوروبيين يكمن فى حرصهم على تطبيق القانون واحترامه، وفاته أن الناس فى الغرب اعتادوا على الالتزام باحترام القوانين والخضوع لها بحيث لا تطغى المصلحة الشخصية على المصلحة العامة للمجتمع، وذلك من خلال تطبيق عقوبات رادعة على كل من يتجرأ على مخالفة القانون، ودون أي استثناءات لأحد أيًا كان منصبه أو مركزه.
أما أن نقول: «إسلام بلا مسلمين.. ومسلمون بلا إسلام».
فنحن نروج دون قصد – أو حتى عن قصد – لما ينادى به الإخوان المسلمين والجماعات التكفيرية من ضرورة تطبيق الشريعة من أجل إصلاح المجتمع!!
إذا كان الأستاذ الإمام قد فهم أنك إذا ذهبت إلى الغرب فستجد مبادئ وتعاليم الإسلام مطبقة من قِبَـل أناس ليسوا مسلمين.. وفى أوطاننا الشرقية تجد شعوبًا مسلمة لكن سلوكياتها وتعاملاتها غير إسلامية!! إذا كان هذا هو معنى ومغزى عبارة محمد عبده.. بل إن كان هذا هو المطلوب أن نفهمه منها.. فلا شك أنه فهم مضلل.. لأنه يؤدى إلى تزييف وعى الناس، فيعتقدون خطأ أن الحلول الدينية والأخلاقية لا الحلول السياسية هى السبيل القويم لإصلاح المجتمعات.. ما أقوله لا يعنى التقليل من أهمية الدين أو الأخلاق، بقدر ما يعنى أن التدين والتحلى بالقيم الأخلاقية هو شرط ضرورى ولكن ليس كافيًا وحده لإصلاح المجتمعات.. إن الأولوية يجب أن تُعطَى لاحترام القوانين.. إذ فى غياب القوانين الملزمة والمطبقة بحسم واستمرار، يتحول المجتمع إلى غابة تسودها الفوضى وتحكمها الهمجية.
إن «الجزاء» أو «العقاب» هو أهم سمة تميز القانون عن الأخلاق.. ومن ثمَّ فإن فلسفة القانون لا تكمن فقط فى معاقبة من يرتكب مخالفات أو جرائم، بل تتمثل فى «الردع» أيضًا، تطبيق القانون لا يحقق معاقبة المجرمين فحسب، بل يمنع المواطن العادى من مجرد التفكير فى ارتكاب مخالفات أو جرائم خشية العقاب!!.. أما الأخلاق فهى التزام داخلى لا توجد عقوبات سريعة فى الدنيا لتوقيعها على المخالفين.. فالكذب والنفاق وعدم الوفاء بالوعد.. إلخ، كلها رذائل ومع ذلك تتم ممارستها يوميًا من قِبَل معظم الناس دون توقيع عقوبات على مرتكبى هذه الرذائل!!
إذا أردنا أن نفسر ما شاهده الإمام محمد عبده، وما يشاهده غيره حتى اليوم من رقى أخلاق الناس فى الغرب وتقدم مجتمعاتهم تفسيرًا صحيحًا فعلينا أن نقول:
إنه من كثرة اعتياد المواطنين فى البلدان الغربية على احترام القوانين.. صار سلوكهم اليومى منضبطًا وكأنهم قد جبلوا وفطروا على الأخلاق القويمة.. وعلى الجانب الآخر فإن الناس فى بلادنا قد اعتادوا على الاستهانة بالقوانين وعدم احترامها، متخذين من بعض كبار المسئولين قدوة لهم فى الاستهتار بالقوانين ورفض تطبيقها وعدم الانصياع لبنودها.. مسئولون كبار فى بلادنا تصدر ضدهم أحيانًا أحكام نهائية من كبرى المحاكم، ومع هذا يماطلون فى تنفيذها.. بل يرفضون تنفيذ هذه الأحكام.. هذا هو السر الذى لم ينتبه إليه فضيلة الإمام محمد عبده.. غياب احترام القانون هنا هو علة تخلفنا، واحترامه هناك هو سر تفوقهم ورقيهم وتحضرهم!! المسألة ليست متعلقة بأن الشعوب الغربية ملتزمة أخلاقيًا، والشعوب الشرقية وُلِدَت بجينات أخلاقية رديئة!!.