اقترنت الكشوف العلمية عبر مسيرة الإنسانية بالخوف والقلق والرفض أيضًا، وإذا كان منطقيًا أن يكون الإنسان هو الكائن الوحيد من بين جميع الكائنات الحية الذى يقلق على مستقبله، ويؤرقه التفكير فى الغد، فمن الواضح أن أكثر الكشوف العلمية إثارة للقلق هو موضوع «الاستنساخ»، ذلك لأن كل تغير كبير فى العلم يقلق الناس فى بدايته، كما حدث عندما أجرى الأطباء للمرة الأولى عملية زراعة قلب، أو حينما جُرِّب العلاج بالجينات لأول مرة، ولكن كثيرًا ما يُعْتـَبر الجديد فى العلم انحرافًا حينما يظهر لأول مرة، ثم تتم ممارسته على نطاق واسع بعد ذلك، من هذا المنطلق يرفض المؤيدون للاستنساخ هذه المبالغات والتهويلات المثارة حول «الاستنساخ»، ويرون أن الضجة التى أثيرت حول موضوع «الاستنساخ» فى كل وسائل الإعلام هى ضجة مبالغ فيها، وليس هناك ما يبررها، وأن من الأفضل أن تُوْضع الأمور فى حجمها الطبيعى، ويرى هؤلاء أن المسائل العلمية لا تُنَاقش بمثل هذه الانفعالات فى جو عاطفى محموم، بل يجب أن تستند المناقشة إلى أسس عقلية وعلمية، كما أنه من الأفضل فصل ما هو خيالى وروائى عما هو حقائق علمية، وأن يتم تدبر الأمور علميًا وبهدوء، وأن تُنَاقش المخاطر والمزايا المحتملة قبل إصدار القرارات والقوانين، وأن يبدأ النقاش أولًا بالمقدمات الصحيحة وليست الخاطئة.
ومن أمثلة المقدمات الخاطئة أن معظم من يعارضون «الاستنساخ» يرفضونه من منطلق أنه يُعَد عبثًا بطريقة تكوين الإنسان، وأنه ضد ناموس الحياة كما خلقه الله عز وجل، كما يُعَد «الاستنساخ» – فى رأى المعارضين له – تدخلًا فى عمل الطبيعة ونظامها، ومن الواضح خطأ هذه المقدمة – كما يقول د. مصطفى إبراهيم فهمى فى كتابه «قضايا علمية» صفحة ٦٤ ذلك، لأن كل الحضارات الإنسانية إنما أقيمت نتيجة لتدخل الإنسان فى نظام الطبيعة من أجل أن يعيد تشكيل الطبيعة وتغييرها بما يفيد الإنسان أكبر فائدة، فاستئناس الحيوانات وحبسها وتربيتها واستغلالها لصالح الإنسان يمثل تدخلًا فى نظام الطبيعة، والزراعة واكتشاف النار واكتشاف الطاقة الذرية، يُعَد أيضًا تدخلًا فى نظام الطبيعة، وكذلك الطيران والمشى فى الفضاء وغزوه، والعيش فى سفينة فضاء فى بيئة بلا جاذبية هو أيضًا خروج على النظام الطبيعى، وكل الكشوف العلمية وتقنيات الحضارات البشرية تنطوى على تدخل فى النظام الطبيعى.. فهل المطلوب أن نتخذ موقفًا رافضًا لكل هذه الإنجازات العلمية؟!!
ويذهب الدكتور مصطفى فهمى إلى أن أمثال هذه المقدمات الخاطئة تمثل خطأ وتشكل خطرًا على مسيرة العلم. لأن «الاستنساخ» هو تجربة علمية جديدة، يجب ألا نقف فى وجهها، ذلك لأن اعتراض طريق البحث العلمى خطيئة، والتاريخ شاهد على ذلك، ففى كل مرة تصدى فيها الإنسان للاكتشافات الجديدة كان مخطًأ، منذ زمن جاليليو إلى الآن، وإن أى حركة رجعية متزمتة فى المجتمع تطالب بإلغاء الأبحاث العلمية، بحجة أن ذلك يُعَد تدخلًا فى نظام الطبيعة وسنن الكون، هى حركة محكوم عليها بالفشل فى نهاية الأمر، فالعلم بحكم بنيته وما ينجم عنه من تقنيات، هو تدخل فى نظام الطبيعة، خصوصا أبحاث الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، فهل يُعْقَل أن يتم إيقاف كل ذلك بهذه الحجة المغلوطة، حجة التدخل فى نظام الطبيعة؟!
«الاستنساخ» إذن ليس تدخلًا فى عمل الطبيعة، وإلا أصبحنا كمن يقول: «إن المرض جزء من نواميس الطبيعة»، وعلى ذلك فإن التدخل فى علاجه إنما هو تدخل فى تلك النواميس، ومن الواضح أن هذا القول لا يقره دين ولا عقل ولا منطق!!
كما أنه ليس فى الاستنساخ أى شبهة لمحاولة خلق، فهو مجرد تكنيك علمى يستغل ما هو موجود بالفعل من أشياء حية، ولا يخلقها من عدم، فهناك خلية من جنين مبكر أو من حيوان بالغ يلزم دمجها فى بويضة، والبويضة يلزم غرسها فى رحم أم بديلة، وهذه كلها خلايا وكائنات مخلوقة من قبل، فعملية الاستنساخ ليست عملية «خلق» وإنما هى أقرب ما تكون إلى «التخليق»، فالاستنساخ ليس خلقًا من عدم، وإنما ترتيب وتنظيم وإعادة تشكيل ما هو موجود بالفعل.
وقد لفت بعض العلماء الأنظار إلى أن المستنسخ والمستنسخ منه لن يكونا متماثلين تمامًا، حيث إن وجود كل منهما ينتمى إلى جيل مختلف، وسيكون كل منهما تحت تأثيرات بيئية مختلفة، فالمستنسخ من «هتلر» مثلًا، لن يكون بالضرورة «ديكتاتورًا»، ولن يتسبب فى حرب عالمية قادمة كما فعل «هتلر»، لأن هناك أيضًا البيئة. فلنفرض أن هناك «هتلر» جديدا نشأ فى ألمانيا اليوم وبه كل صفات «هتلر» القديم، فماذا سيفعل؟ يجيب «نجيب محفوظ» عن هذا السؤال بقوله: «ربما أصبح فنانًا يعبر من خلال الفرشاة والألوان عن عالمه الجديد الذى يسعى لتحقيقه، وبدلًا من أن يحطم العالَم قد يحطم الواقعية.
إن الإنسان فى الحقيقة ابن البيئة وليس فقط ابن الخلايا، وهتلر لم يكن مجرد خلايا وطباع، وإنما هو فى الأساس ابن معاهدة فرساى وابن ألمانيا المذلولة التى كان يجب أن تثور وتتمرد».
ومن ثمَّ فإنه – وكما يقول الدكتور فؤاد زكريا – لا أساس على الإطلاق لذلك الخوف واسع الانتشار من الأخطار التى تترتب على ظهور هتلر آخر، ولا أساس مطلقًا للأمل فى ظهور «أينشتين آخر»، لأن شخصية «أينشتين» هى النقيض الإيجابى لهتلر عند كل من يفكرون فى نتائج الاستنساخ البشرى.
ويرى مؤيدو الاستنساخ أن الوعى العام فى المجتمع ككل كاف لمنع التوظيف السيئ للاستنساخ، وأن من غير المتوقع بالطبع أن يهجر الناس التكاثر الجنسى لمصلحة الاستنساخ، فالأول يضمن التنوع الوراثى بكل ميزاته، ويضمن قوة الهجين، كما يشتمل على إشباع الرغبات الفطرية، إذ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يمارس الجنس ليس من أجل الإنجاب فقط، وإنما من أجل الاستمتاع أيضًا، ومن ثمَّ فإن حاجة كل من الرجل والمرأة للآخر لن تنتفى بانتفاء الرغبة فى الإنجاب.
ويقول مؤيدو الاستنساخ، إنه بالإضافة إلى التطبيقات المفيدة فى النبات والحيوان، فإن ثمَّة تطبيقات تزيل المعاناة عن الإنسان، من ذلك مثلًا حالة الزوجين العقيمين الميئوس طبيًا من أن يتمكنا من الإنجاب، هذه الأسرة يمكنها الحصول على طفل باستنساخ خلية من الأب، تعالج وتوضع فى رحم الأم، والأزواج عادةً يفضلون الحصول على طفل له صلة قرابة بهم أى صلة وراثية، ويفضلون ذلك على تبنى (أطفال غرباء).
قال عالِم الاجتماع الطبى الأمريكى «جيمس هيوز»: «إننى غير مرتاح لقرارات الرئيس كلينتون المتعلقة بالاستنساخ التى تُتْخَذ دون تدبر، والتى تتمسح بوشاح القداسة، حيث يقرر الرئيس أننا تجاوزنا الحدود التى لا يجوز للبشر أن يتعدوها، أنا لا أوافق على وجود مثل هذه الحدود، المفروض أن تتحكم البشرية فى مقدراتها ليس هناك، إذن – وفقًا لهذه الوجهة من النظر – ما هو سيئ فى التغيير ذاته فقد يتاح مثلًا دواء يقوى ذاكرة الإنسان بنسبة ١٠٪، وإذا سمحنا للبالغين باستعماله فسنكون بذلك، يقينًا، قد تجاوزنا الحدود الطبيعية، لكن لن يكون استخدامه خطأ لمجرد أن ذاكرة البشر كانت دائمًا محدودة، وزرع كبد خنزير فى إنسان هو أيضًا تجاوز للحدود الطبيعية، لكن لو أن ابنتى كانت على شفا الموت بمرض كبدي، وكان نقل هذا الكبد لها سيمد عمرها عشرات السنين، فسأنقله إليها».
بقى أن نعود ونؤكد أن المعرفة فى حد ذاتها ليست خيرًا أو شرًا، المعرفة معرفة، أما الخيار البشرى فقد يكون طيبًا أو خبيثًا، أخلاقيًا أو غير أخلاقى، لذا فعلى البشرية أن تختار السير قدمًا، وعدم الاختيار هو فى ذاته اختيار، فإذا اخترنا ألا نمضى قدمًا فقد اخترنا الركود، ولقد حدث كثيرًا فى الماضى أن عادت مجتمعات أدراجها وتجنبت التغيير، فاختفت، أو أصبحت مجرد أطلال لمجتمعات كانت يومًا تضج بالحياة.