غياب تطبيق القانون يُظهر أى مجتمع بوصفه مجتمعًا بلا أخلاق، لكن حين يسود القانون وتُطبق نصوصه على الجميع كبيرًا وصغيرًا، تنضبط الأوضاع ويعم الأمن والسلام أرجاء البلاد؛ لذلك نحن أحوج ما نكون إلى تفعيل القوانين وتطبيقها حتى تنضبط أوضاعنا المنفلتة.
نرى فى الشارع المصرى سلوكيات بالغة السوء، نشاهد سيارات فخمة وفارهة على أحدث طراز يُلـْقِى سائقها بعلبة سجائر أو مياه غازية فارغة من نافذة السيارة! نلاحظ فى هذا المشهد تناقضًا بين التقدم التكنولوجى والمادى من جانب، والانحطاط الأخلاقى من جانب آخر لصاحب هذه السيارة الذى تصرف على هذا النحو السيئ. ذلك الشخص لو كان مدركًا أنه سوف يقع تحت طائلة القانون، وأنه سوف ينال عقوبة رادعة إذا فعل هذه الفعلة النكراء (إلقاء القمامة فى عرض الطريق) لما أقدم على اقترافها. إنه يعلم جيدًا أن لا أحد يُسائل أحدًا، ولا سلطة تعاقب مخالفًا أو منتهكًا للقانون. لو أن ذلك الشخص كان يسير بسيارته فى عاصمة غربية، أو حتى خليجية، لما جرؤ أن يفعل ذلك العمل المشين (إلقاء القمامة فى عرض الطريق)، لكنه يعلم أنه هنا فى مصر؛ حيث تكون الأمور «سداحًا مداحًا» «على حد تعبير الكاتب الكبير المبدع المرحوم أحمد بهاء الدين»، بل قد لا يكتفى ذلك الشخص بإلقاء علبة المياه الغازية الفارغة من نافذة السيارة، فيلقى بكيس قمامة ممتلئ حتى آخره فى الشارع. وقد تصل درجة الانحطاط والفجور والتدنى ببعض السائقين فى الشارع المصرى إلى القيام بالبصق من نافذة السيارة. تلك المناظر المثيرة للقرف والغثيان، هى مشاهد يومية يصطدم بها كل من يقود سيارته فى شوارع القاهرة، أو أى مدينة كبرى من مدن مصر.
كما نشاهد أيضًا ذلك السائق المدخن الذى يخرج ذراعه عبر نافذة السيارة قابضًا على سيجارة مشتعلة بين إصبعيه، وبدلًا من استخدام مطفأة السجائر الموجودة بالسيارة (كل سيارة مجهزة بحيث تكون بداخلها مطفأة للسجائر)، نجد ذلك السائق المدخن يتخلص من رماد سيجارته، وينثره فى وجوه سائقى السيارات التى خلفه.
أيضًا نلاحظ فى الشارع المصرى مشهدًا غريبًا وعجيبًا وشاذًا، أظن أن لا وجود لمثيله فى بقعة من بقاع الأرض، هو أن سائق السيارة يقوم بإخراج ذراعه بالكامل من نافذة السيارة، ويتركه متدليًا طوال الطريق مواصلًا القيادة بذراع واحدة. إننى حتى الآن عجزت عن الاهتداء إلى معنى أو مغزى هذا السلوك الشاذ من جانب بعض سائقى السيارات فى مصر، هل هذه النوعية من السائقين تسعى للبرهنة على أن لها مقدرة فائقة وخارقة بذراع واحدة؟! لست أدري. كل ما أعرفه أن هذا المشهد الذي يتكرر كثيرًا مثير للاشمئزاز، فضلًا عن أنه يعرض للخطر أمن ذلك السائق الأحمق وأمن من حوله. جانب آخر تتبدى فيه ظاهرة الاستهتار بالقانون على أوضح ما تكون، تتعلق هذه الظاهرة بالعادات والتقاليد التى انتشرت فى مجتمعنا وترسخت وكأنها جزء لا يتجزأ من كياننا الاجتماعي، أقصد استخدام مكبرات الصوت فى الأفراح والمآتم. فى أفراحنا اعتدنا استحضار أحدث مكبرات صوت وأقواها، ونقوم بتشغيلها حين بدء الفرح، مستخدمين أعلى درجات الصوت، وكأن صاحب الفرح يريد أن يذيع فى كل أرجاء الكون ـ وليس فى منطقته أو بلده فقط ـ أن نجله أو كريمته سوف يتم زفافه أو زفافها اليوم، ليس مهمًا أن يستمتع الناس بالهدوء أو يكون أحد الجيران مريضًا ويحتاج إلى الراحة والهدوء، أو يكون أحد الأطفال نائمًا، أو يكون بعض الطلبة فى فترة حرجة ومقبلين على امتحانات ويحتاجون للهدوء من أجل التركيز والاستيعاب.. كل هذا ليس مهمًا، المهم أن يعلم الجميع بحفل الزفاف هذا!!
الشىء نفسه يمكن أن يقال فى حالة المآتم المبالغة فى استخدام أحدث مكبرات الصوت وأضخمها، حتى أننى حين أذهب لأداء واجب عزاء أكون فى حالة قلق شديد بسبب مدى الضرر والأذى الذى سوف تتعرض له أذنى من جرَّاء الارتفاع المبالغ فيه لدرجات صوت المقرئ من خلال مكبرات الصوت. ويمكن رصد ظاهرة أخرى مؤسفة حين يأتى موعد أذان الظهر أو العصر أو أى موعد للصلاة، تكون فى بعض الحالات المسافة بين المسجد والآخر لا تتجاوز أمتارًا قليلة، ومع ذلك يحرص القائمون على إدارة شئون كل مسجد منهما على رفع الأذان بمكبرات صوت عالية جدًا ومتداخلة، فى حين أنه لو تم الاكتفاء برفع الأذان من خلال مئذنة مسجد واحد منهما، لكان فى وسع صوت هذا الأذان وحده أن يغطى المساحة المكانية ويزيد، بحيث يصل صوت المؤذن إلى جميع قاطنى المنطقة السكنية. إن رفع الأذان باستخدام مكبرات صوت بدرجات عالية للغاية وبخاصةٍ إذا صدر من أكثر من مسجد فى منطقة واحدة يتعارض مع الغرض الأساسى من الأذان، وهو إعلان الناس وإعلامهم بشكل جميل وبصوت عذب جاذب عن أن موعد الصلاة قد حان. كل هذا وغيره يكشف عن تردّى أخلاقنا بسبب غياب تطبيق القوانين. إن الحالة الأخلاقية المتردية التى يعانى منها المجتمع المصرى، سوف تتلاشى وتزول حين تطبق القوانين على الكبير والصغير. الزحمة تؤدى إلى تردى الأخلاق وتدهورها، ومما يزيد الأمر سوءًا عدم تفعيل القوانين؛ فغياب تطبيق القوانين فى كل أرجاء مصر أدى إلى تردى الأخلاق وتدهورها، ومن ثم يبدو الأمر لصاحب النظرة السطحية وكأننا شعب بلا أخلاق، كأننا بالفطرة ولدتنا أمهاتنا بلا أخلاق، كأن الجينات الخاصة بنا منزوعة منها الأخلاق، وهذا أمر غير صحيح. الحقيقة أننا شعب متحضر راقٍ، لكن أولى الأمر المسئولين فى بلادنا يبدو وكأنهم حريصون على عدم تطبيق القانون كى يظل الناس يدورون بلا انضباط فى حلقة مفرغة يتخبط بعضهم بالبعض الآخر، ومن ثمَّ ينشغل المواطنون بهمومهم الشخصية، ولا يجدون وقتًا أو جهدًا لمتابعة الشأن العام، وبذلك تخلو الساحة أمام القائمين على شئون البلاد يفعلون ما يتراءى لهم، سواء أكان (ما يتراءى لهم هذا حقًا أو باطلًا) دون قاعدة جماهيرية – ممتدة بامتداد الوطن – فاحصة وناقدة.