إن الطابع الاحتمالى هو السمة الغالبة على مجمل نسق العلم اليوم. إذ أدى تطور العلوم فى القرن العشرين إلى القول بالاحتمال، فمع بداية القرن العشرين أفضى تطور الفيزياء إلى إعادة النظر فى فكرة القوانين الطبيعية، وانتهى بفلسفة جديدة للسببية، فلقد اتضح من أبحاث ميكانيكا الكم الحديثة (الكوانتم Quantum)، أن الحوادث الذرية المفردة لا تقبل تفسيرًا سببيًا، بل تحكمها قوانين الاحتمال.
ومع هذا نود أن نؤكد أن الفيزياء الحديثة لم تؤد إلى استبعاد قوانين الفيزياء الكلاسيكية استبعادًا تامًا، بل أهم ما فعلته أنها قيدت مجالات استخدامها، فلم يعد فى الإمكان تطبيق قوانين نيوتن للحركة على بعض الجسيمات؛ وهى الإلكترونات التى تتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء داخل الذرة، فضلًا عن أنه من المستحيل فى الفيزياء النووية أن نهمل التغيرات التى تسببها عملية الملاحظة على الشىء الذى نفحصه. أما إذا كنا نتعامل مع مفاهيم مثل «الكتلة» و«السرعة» ونريد تطبيقها تطبيقًا مباشرًا، سنجد أن قوانين نيوتن ما زالت صالحة. ولذا يمكن القول إن الأخذ بمفهوم الاحتمال لا يعنى «إلغاء» فكرة السببية، بل يعنى «تقييد» مجالات تطبيقها. إذ إن هناك مجالات تكون العلاقات فيها مباشرة بين عامل وآخر ناتج عنه، كالعلاقة بين جرثومة معينة ومرض معين. فى مثل هذه الحالات تظل فكرة السببية مستخدمة وتظل لها فائدة كبرى فى العلم.
ومن جهة أخرى، نرى أنه ليس هناك ما يدعو إلى التعصب لعلمنا المعاصر، فنصف نظريات السابقين بأنها لا علمية أو أن عصرهم كان عصر جهل وتخلف لمجرد أن نظرياتهم لا تتفق مع مبادئ العلم التى تسود عصرنا. إننا اليوم نأخذ ببعض النظريات العلمية؛ لأنها أقصى ما وصلت إليه معرفتنا، ولو كان فى مقدورنا معرفة المزيد ما توانينا عن ذلك، وليس هناك ما يمنع من قيام نظريات علمية جديدة فى المستقبل القريب أو البعيد لتحل محل نظريات عصرنا. فيكون هناك فكر جديد يقوم على أكتاف فكر مضى؛ وهو نفسه فكر هذا العصر الذى نعيش فيه.
انطلاقًا مما سبق، نرى أن ظهور هندسات لا إقليدية أو نظريات علمية لا تتفق وفيزياء نيوتن، لا يخول لنا الحق فى إظهار عدم الاحترام نحو علماء من أمثال أقليدس ونيوتن. أو أن نصف كل من وثق يومًا فى الصدق المطلق لنظرياتهما بأنه جاهل أو متخلف؛ لأنه إذا كان من الثابت اليوم أن الفيزياء الحديثة لم تعد تعترف ببدهيات الهندسة الإقليدية، وببعض مفاهيم ونظريات الفيزياء الكلاسيكية. وإذا كنا نعلم اليوم أن الرياضة البحتة تحليلية، وأن جميع تطبيقات الرياضة على الواقع الفيزيائى – وضمنها الهندسة الفيزيائية – لها صحة تجريبية، ويمكن أن تصححها التجارب اللاحقة، وإذا كنا نعلم كل هذا؛ فإننا لم نكتسب هذه المعرفة إلا فى الوقت الحالى، بعد أن تم تجاوز فيزياء نيوتن وهندسة إقليدس. وأنه لمن الصعب أن يتصور المرء إمكان انهيار نسق علمى عندما يكون ذلك النسق فى أوج ازدهاره، أما بعد أن أصبح هذا الانهيار حقيقة واقعة، فما أسهل الإشارة إليه.
إن عظمة إقليدس ونيوتن لا تقل مثقال ذرة عن عظمة «ريمان» و«أينشتين»؛ لأن كل عظيم مرتبط بزمانه، لا يظهر إلا فيه، وإذا كان كل عظيم يخطو بالعلم خطوة واسعة؛ فإنه لا يخطر بباله أن يدعى أنه قد وضع الحدود النهائية لذلك العلم، ومصير كل عظيم بالضرورة أن تقذف به إلى الوراء كل خطوة تخطوها الأجيال التالية إلى الأمام. إن أولئك العظماء أشبه ما يكونون بالعمالقة الذين قفز على أكتافهم أقزام تمكنوا بهذا من أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد مما يرى هؤلاء العمالقة أنفسهم. ومعنى هذا أن العلوم تظل تتقدم بعد هؤلاء العظماء وبفضلهم ونتيجة للأثر الذى خلّفوه. ومن هنا كانت معارف خلفائهم العلمية أكثر اتساعًا وعمقًا مما عرفه هؤلاء العظماء فى زمانهم، غير أن العظماء، لا يفقدون من جراء ذلك عظمتهم.