74 عاماً بالكمال والتمام مرت على تقديم أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد (تم إغتياله في 5 يناير1946 بسبب رئاسته لجمعية الصداقة المصرية البريطانية وشكوك حول موالاته لبريطانيا وتغليب مصلحتها على مصلحة مصر) مذكرة إلى مجلس الوزراء في عام 1943 لتمصير الدين الخارجى وتحويل أقساط الديون التي كانت تدفع بالجنيه الأسترلينى في ذلك الوقت إلى أقساط تدفع بالجنيه المصري.
ووافق مجلس النواب في نوفمبر من نفس العام على طرح بالأكتتاب العام للديون الخارجية التي تم تغطيتها بكامل قيمتها وأستعادت مصر إستقلالها المالى وخرجت من عنق الزجاجة بعد 67 عاماً بدأت بعد أن أضطر الخديوى إسماعيل إلى قبول إنشاء صندوق الدين المكون من مراقبين أوروبيين يمثلون أهم الدول الدائنة، ومن المعروف أن الدين الخارجى لمصر كان قد وصل في عام 1900 م إلى 116 مليون جنيه (بمعدل فائدة تتراوح بين 5-7%، وأغلبها ديون من عهد الخديوى إسماعيل) وحتى عام 1930 وصل الدين الخارجى إلى 86 مليون جنيه على الرغم من أن مصر سددت خلال الثلاثين عاماً 145 مليون جنيه وهو مبلغ اكبر من قيمة أصل الدين في عام 1900 (بمعدل 40% من إجمالى إيرادات الدولة دفعت لخدمة الدين الخارجى)، بغض النظر عن شخصية أمين عثمان المثيرة للجدل فإن تحويل الدين الخارجى لدين داخلى منح لمصر إستقلالية إقتصادية وحول مصر من دولة مدينة لدولة دائنة (بريطانيا كانت مدينة لمصر بحوالى 539 مليوناً و288 ألف جنيه إسترليني) وأصبحت مصر صاحبة أكبر غطاء ذهبى لعملتها في العالم (5.154 طناً) وأستمر هذا الوضع حتى عام 1956 حيث بدأت مصر رحلة الأقتراض من جديد ..!
التجربة المصرية في سداد ديونها الخارجية كانت ملهمة لدول أخرى سارت على نفس النهج وأشترت ديونها الخارجية وحولتها إلى ديون داخلية مثل كوريا الجنوبية (عام 2001) والبرازيل (عام 2005) وروسيا والأرجنتين والأوروغواي (عام 2006)، وتركيا ولاتفيا والمجر (عام 2013) ومقدونيا ورومانيا وآيسلندا (عام 2015)، كل هذه الدول أتبعت سياسة تشجيع المدخرات المحلية وتنظيمها في صناديق معفاة من الضرائب تسمح لها بشراء الديون الخارجية تحت إشراف الدولة (عمليّة تقوم بموجبها الدول بإعادة شراء ديونها في السوق العالمي بسعر أدنى من القيمة الأسمية للدين) مع منحها سعر فائدة مرتفع بالعملة المحلية كما تم تطوير سوق الأوراق المالية ليستوعب صناديق تعبئة المدخرات التي أصبحت تحقق أكبر عائد على الأستثمار، كما أصبحت هذه الصناديق هي حجر الزاوية في الأستثمار المحلى مما خفف الضغط على ميزانية وأنخفض معدلات خدمة الدين إلى أقل من 1% من الميزانية (بعد ان كانت معدلات خدمة الدين تتراوح من 30 إلى 70%) وبالتالى وجهت هذه الدول الفائض من معدلات خدمة الديون للإنفاق على الاستثمار في البشر حيث تم زيادة مخصصات الإنفاق العام على التعليم والصحة والإسكان والبحث العلمي والتكنولوجيا مما ساهم في تحقيق معدلات نمو مرتفعة وتوطين التكنولوجيا المستوردة والتحول في مراحل لاحقة إلى تطوير التكنولوجيا والإبتكار.
تحويل الإقتصاد المصري من إقتصاد إستهلاكى يخدم الدائنين إلى أقتصاد إنتاجى قائم على التنمية المستدامة لتحقيق رفاهية المواطن المصرى أمر ليس من المستحيل تحقيقه، فعلى سبيل المثال مصر بها حوالى 6 ألاف صندوق وحساب خاص (تحصل هذه الصناديق على مواردها المالية إما من الإيرادات العامة للدولة كنسبة من اجمالي الإيرادات، أو كنسبة من ضريبة بعينها أو أو نسبة من رسوم الإستخدام أو صناديق تقدم خدمات بأجر سواء كمورد خدمات للدولة أو تبيع خدمات مباشرة للجمهور) بلغ الفائض من ميزانياتها عام 2012 من العملات المحلية والأجنبية حوالى 48 مليار جنيه (حوالى 3 مليار دولار بأسعار التحويل في عام 2017)، كما تأتى البنوك الوطنية كمرشح أخر للأستثمار في شراء الديون الخارجية بما تحققه من صافى أرباح (حوالى مليار دولار سنوياً)، كما أن الشعب الذي جمع في أسبوع 56 مليار جنيه لشراء شهادات قناة السويس قادر على جمع مبالغ أكبر فقط إذا تعامل معه النظام بشفافية ومصداقية وشراكة حقيقية في صناعة القرار.
التنمية في مصر قضية مصيرية خاصة وأن مصر طوال 65 عاماً لم تنفذ مشروع تنموى واحد يغير في هيكل الأقتصاد المصرى أو يضيف صناعة جديدة أو قيمة مضافة للصادرات المصرية، بالإضافة إلى أن الديون الخارجية والتى وصلت في العام المالى الحالى 2016/2017 إلى 80 مليار دولار تحول دون قدرة الدولة على توجيه الإنفاق العام بصورة تحقق متطلبات التنمية خاصة وأن تقديرات إجمالي فوائد خدمة الدين العام المطلوب سدادها عن القروض الأجنبية في مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2017/2018 بلغت نحو 986. 380 مليار جنيه أي 3. 9% من الناتج المحلي الإجمالي حيث ستعادل فوائد الديون في الموازنة الجديدة 3 أضعاف حجم الاستثمارات في الموازنة و8 أضعاف حجم
مشتريات الحكومة من سلع وخدمات ومرة ونصف من مخصصات أجور العاملين في الدولة، وبالتالى فإن هيكلة الديون الأجنبية وتحويلها إلى دين داخلى سيساعد على تقليص العجز في ميزان المدفوعات ويرفع من قيمة الجنيه المصرى أمام العملات الصعبة مرة أخرىى، السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل لدى النظام رغبة حقيقية في الخروج من دائرة الديون الجهنمية وتنفيذ برامج حقيقية لتطوير الأقتصاد وركوب قطار التنمية المستدامة والذي من شأنه أن يقلل من نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ويكبح جماح التضخم والبطالة ويعبر بنا إلى المستقبل أم سنستمر بترديد الشعارات الرنانة والمؤتمرات الخطابية في شرم الشيخ التي ستبقى مصر في مستنقع الديون الخارجية تعانى من حالة كساد تضخمى لا يعلم نهايته إلا الله …!