صوت الراحلة «شادية» يحكى قصة وطن، عبر حنجرتها الذهبية غنت الفنانة الرقيقة أحداث وحكاوى وأفراح وأوجاع هذا الوطن على مدار عقود مديدة. خلال سنوات الهدوء و«خلو البال» الذى كان يعيشه المصريون قبل ثورة يوليو 1952، حين لم يكن تعدادهم يزيد على 20 مليون نسمة، كانت شادية تغنى للحب، وتشدو بمحبة الحياة، وتتفنن فى مديح الأرض وما تحصده الأيادى المعروقة المتعبة من ثمار.
وبعد ثورة يوليو صاحَب صوت شادية الأحداث التى مرت بها مصر حينذاك فأبدعت فى الغناء للوطن، غنت للوطن الأكبر، والسد العالى، غنت «يا مسافر بورسعيد» أيام العدوان الثلاثى، و«الدرس انتهى لموا الكراريس» بعد مذبحة الأطفال فى «بحر البقر»، ثم غنت «عبرنا الهزيمة» بعد انتصار أكتوبر. كان صوت «شادية» يتألق ويتأنق عندما كانت تشدو للوطن وتقول «يا حبيبتى يا مصر» و«يا أم الصابرين» و«ادخلوها آمنين» و«غالية يا بلادى».
غنت شادية للفقراء وأطفال الشوارع فخلعت القلوب وأوجعتها. لو أنك استرجعت الأغنية التى شدت بها الراحلة فى فيلم «لا تسألنى من أنا»، أغنية: «مين يشترى ورد الربيع»، فستجد صوتاً يشعر بما يقول، ويقول ما يحس: «مين يشترى ورد الربيع.. وأدينا بنبيع عمرنا.. والعمر يوم ورا يوم يضيع.. ونضيع سنة ورا سنة.. وما دمنا بعنا الروح نبيع.. حتى ضنانا ولحمنا». غنت شادية هذه الكلمات، بعد أن اتهمتها ابنتها بأنها باعتها لسيدة غنية من أجل المال، فصرخت فيها الأم: «الناس طول ما فيه فقر.. مش هتبيع أولادها.. ده هتبيع لحمها». قمة التألق بلغتها شادية فى هذا المشهد المؤلم. فكم هزم الفقر بشراً حتى ساقهم إلى العمل ضد الطبيعة الإنسانية. نعم الفقر موجود فى كل زمان ومكان، لكن تفاعل البشر معه يختلف.
كانت مصر تجرى فى دم وأعصاب «شادية»، وكان إبداعها يتألق عندما يكون الوطن وأحوال الوطن موضوعاً لفنها. لا يظهر ذلك فى الأغانى الوطنية، أو الأغانى التى عبرت بها عن فقراء الوطن فقط، بل ظهر أيضاً فى مجموعة الأغانى الشعبية التى شدت بها، على نغمات «بليغ حمدى». استمع إلى أغانى: «الحنة»، و«قطر الفراق»، و«خدنى معاك»، و«قولوا لعين الشمس»، و«غاب القمر». تعلم أن الأغانى الشعبية هى الأكثر رسوخاً فى الوجدان المصرى من غيرها. وظنى أن شادية كانت تستمتع بها بشكل خاص وهى تؤديها، لأنها كانت تعبر عن فرط محبتها وذوبانها فى كل ما هو مصرى. وقد كانت الراحلة مصرية حتى النخاع.
يندر أن تجد شخصاً يجيد فى كل ما يصنعه كما تحكى تجربة «شادية». لم تتوقف إجادتها عند عتبة الأغانى فقط، بل كانت ممثلة قديرة، مثلت للسينما، وأدت على المسرح، وكانت مسلسلاتها الإذاعية طقساً رمضانياً استمتع به الجيل الذى عاصرها. فعبر إذاعة الشرق الأوسط تألقت «شادية» فى مسلسل «صابرين»، وتفوقت على نفسها فى مسلسل «نحن لا نزرع الشوك» الذى تظل أغنيته الشهيرة علامة من علامات إبداعها. قبل سنوات من رحيلها قررت «شادية» الاعتزال، وخلت إلى ربها تتعبد وتتبتل، فى انتظار النهاية الحتمية لكل حى. وفى الختام رحلت فى صمت ودون صخب. أنزل الله عليها سحائب رحمته وعظيم غفرانه.