من يعتقد أن القدس قد ضاعت يوم الأربعاء الماضى فى تمام الساعة الثامنة مساءً واهم. القدس ضاعت منذ زمن.. ومنذ سنوات من يريد الذهاب إلى القدس لا بد أن يختم جواز سفره بتأشيرة «تل أبيب».. ومنذ سنوات أيضاً والقدس عاصمة إدارية لإسرائيل بها كل الوزارات والهيئات المهمة والسفارات. كل ما حدث يوم الأربعاء هو إعلان رسمى بأنها العاصمة الأبدية التاريخية الدينية لإسرائيل. وإسرائيل تكذب من يوم ميلادها فى 14 مايو 1948 وتدّعى تاريخاً غير حقيقى وتدّعى حقاً ليس لها، وأمريكا خلفها تلهث لإرضائها بعد أن تحولت إلى دولة محتلة من إسرائيل.
أمريكا الآن مثل العلبة الملونة البرّاقة المبهرة ولكن داخلها يقبع رجال كونجرس يهود ورجال مال يهود ورجال سلاح يهود ورجال إعلام يهود يحتضنون حق «الفيتو» الشهير ويشيرون لأمريكا أن ترفع هذا الكارت الأحمر فى وجه من يريدون فترفعه صاغرة.. حوّلوا الأمم المتحدة إلى كذبة عاجزة، وحوّلوا مجلس الأمن إلى «خيال مآتة»، وضربوا بكل القوانين عرض الحائط، وسخّروا الولايات المتحدة فى خدمتهم، وهذه هى الصورة الآن. متى ضاعت القدس؟ هذه هى قضيتنا نحن.. العرب. ضاعت القدس يوم أن هاجر إليها اليهود أفواجاً بعد وعد «بلفور» الشيطانى عام 1917، وبعد أن أخذ اليهود الأموال من بلاد الأمريكان وجاءوا يلوّحون بها للشعب الفلسطينى الذى ابتلع الطعم وباع الأرض. ضاعت القدس يوم أن تآمر الأمريكان فى مؤتمر المائدة المستديرة لتقسيم فلسطين عام 1947 ومنعوا الدول التى توقعوا أنها ستصوت ضد قرار التقسيم من الوصول إلى مبنى الأمم المتحدة.. ضاعت القدس يوم مذبحة «دير ياسين» التى تعلّم منها الدواعش كيف يكون القتل والترويع، ولم يستغل العرب الحدث دولياً، ولم يروّجوا له مثلما فعل اليهود فى المحرقة، وهى فى مجملها بها كثير من الكذب.. ضاعت القدس يوم أن خدعت «جولدا مائير» الملك عبدالله ملك الأردن وأقنعته بأن ينسحب بجيشه من «اللد والرملة» وسوف يكافأ بأن يكون ملكاً على القدس، وانسحب وهُزمنا فى حرب فلسطين، وضلّلنا أنفسنا بأكذوبة الأسلحة الفاسدة وصدقناها، ولم يصبح الملك عبدالله ملكاً على القدس، بل تم اغتياله فى المسجد الأقصى عام 1951.
ثم ضاعت القدس فى 5 يونيو عام 1967، وضاعت معها غزة والجولان والضفة وسيناء بأكملها. وبعد ست سنوات عبرنا القنال فى أكتوبر واستعدنا كرامتنا المهدرة وحطمنا الصلف الإسرائيلى وأسطورة التفوق التى توهّموها، وأصبحنا فى مركز قوة سار بنا إلى «كامب ديفيد»، ولولاها ولولا السادات العبقرى العظيم لكان نصف سيناء محتلاً إلى الآن، وربما كان يوم الأربعاء الماضى يوماً لإعلان «شرم الشيخ» عاصمة أبدية تاريخية لإسرائيل. ولكن.. ماذا فعل العرب مع السادات؟ مقاطعة شاملة.. هتفوا ضده.. اتهموه بالخيانة وقال راديو سوريا إنه يوم أسود، ونقلوا الجامعة العربية، وعاشوا فى وهم تحرير الجولان وفلسطين ورفض اتفاق السلام. عندما جلس السادات إلى مائدة المفاوضات طالب باستعادة الأراضى المحتلة كلها للأردن وسوريا وسيناء وإقامة حكم ذاتى لفلسطين كبداية لوجود دولة مستقلة، واستمر الرفض، وابتعد العرب، وابتعد عرفات، وظل مقعده شاغراً فى «ميناهاوس» وأضاع الفرصة الأخيرة. واضطر السادات إلى أن يوقع الاتفاقية ويستعيد أرضه، ورفع العلم فى العريش، وكان ينتظر 25 أبريل عام 1982 ليرفع العلم فوق سيناء كلها، ولكن دفع حياته ثمناً لشجاعته وجرأته السياسية الفريدة، وعادت لنا طابا بعد ذلك بست سنوات من المحكمة الدولية. ومضى على هذه الاتفاقية 38 عاماً، والنتيجة أن ضاعت الجولان إلى الأبد وتقلصت أراضى فلسطين تحت جحافل المستوطنات حتى أصبحت «غزة» وجزءاً صغيراً متآكلاً فى «الضفة الغربية»، وضاع الباقى من القدس على يد «حماس» التى أعلنت الجهاد والمقاومة ضد منظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، وهى الممثل الوحيد الشرعى للفلسطينيين، وقتلت منهم الكثير، ولم تصوب سلاحاً ضد إسرائيل، واستولت على غزة، وانقسمت السلطة الفلسطينية المتبقية.. وانتهت القدس عندما جاء «الربيع العبرى»، وتم تدمير الجيوش العربية، واشتعل القتال فى سوريا وليبيا واليمن والعراق، وتحولت البلدان العربية إلى فتات يأكل بعضها البعض، وموّلت أمريكا الإرهاب، وقادته إسرائيل والعملاء من الدول العربية وتركيا، وظهر لنا الدواعش بعد أن تحطم الربيع الأسود على أعتاب مصر، وما زال يتدفق إلينا بمباركة الأمريكان وتمويل قطر. وفى هذا الجحيم العربى كان الوقت المناسب جداً لأمريكا وأعلن «ترامب» اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة أبدية تاريخية دينية لإسرائيل، وقرر نقل السفارة الأمريكية إلى هناك فى ظرف ستة شهور.. وأعلن نتنياهو فى سعادة وبرود أن هذه الخطوة هى الأولى فى طريق السلام.
دعونا من الولولة والهتاف بالقدس العربية.. دعونا من الأغانى والرفض والشجب والتنديد والتصويت على «تويتر».. دعونا من كل هذا، فالواقع مخيف.. الدول العربية الآن منها من يحتضن قواعد عسكرية أمريكية، ومنها من يستضيف قوات أمريكية، ومنها من يقاتل بعضه بعضاً، ومنها من يبيع الجميع بالأموال، ومنها من يلملم جراحه.. لن يتوحد أحد لاستعادة القدس، فالجميع منكبُّون على مشاكلهم.. قُضى الأمر والبقاء للأقوى. لدينا أمل وحيد فى النشء الصغير أن نتكاتف لنحكى لهم ونعلمهم كيف كانت المأساة وكيف كان التقصير ومن أين جاءت الهزائم ومَن أضاع القدس.. نعلمهم حتى إن شبُّوا ظلوا يرددون أن هناك فى أرض كنعان الفلسطينية دولة مجرمة غاصبة سطت مثل اللصوص على أرض عربية، واستولت فى غفلة منا نحن على قبلة الأديان ورمز العروبة الضائعة.. نعلمهم أن الحلم الأمريكى كذبة كبرى، وأن كل الشرور تأتى من خلف المحيط يظلها العلم الأمريكى وهو يرفرف كوجه الشيطان القبيح.