تابعت يوم السبت الماضى الحديث التلفزيونى للسيد وزير التعليم، الدكتور طارق شوقى، مع الأستاذة لميس الحديدى حول الوجبة المدرسية وقرار إعادة العمل بها بعد عام على وقفها إثر إصابة عدد من التلاميذ بتسمم جماعى فى محافظة سوهاج فى شهر مارس الماضى. وقد أثار الحديث اهتمامى لسببين: المتحدث وموضوع الحديث.
فالمتحدث مسئول عن أهم وأصعب ملف فى مصر، كما أنه يبدو غير قانع بمجرد تسيير أعمال الوزارة والاكتفاء بالتعامل مع بحر مشاكلها اليومية الذى غرق فيه من قبله عدة وزراء، بل يسعى لتحقيق تغييرات كبرى فى نظام التعليم بمدارسه ومدرسيه ومناهجه وامتحاناته، وهذه شجاعة تستحق التقدير والمساندة. أما موضوع الوجبة المدرسية فكان ولا يزال يهمنى بشكل خاص لاعتقادى أن تطبيق برنامج وطنى شامل للتغذية المدرسية على مستوى التعليم الابتدائى هو المشروع القومى العملاق الذى يمكن أن يحدث تغييرا جذريا ومستداما فى صحة الأطفال وتعليمهم كما أنه الأداة الأكثر فاعلية فى منظومة الحماية الاجتماعية.
ولكن مع سعادتى بعودة العمل بالوجبة المدرسية، إلا أن ما سمعته فى الحديث التلفزيونى وما نشرته الصحافة فى الْيَوْم التالى نقلا عن مسئول بالوزارة جاء على غير ما توقعت لأنه يشير إلى نية الدولة اعادة العمل بالبرنامج الذى كان قائما من قبل دون تطوير يذكر أو تحديث. وهذا فى تقديرى غير كاف، لأن ما لدينا لم يكن برنامجا للتغذية المدرسية بالمعنى الحقيقى بل مجرد توزيع متفرق لفطيرة «العجوة» التى ينتجها خمسة عشر مصنعا تابعين لوزارة الزراعة، و«بسكوت» وارد من منظمة الغذاء العالمى، ومواد أخرى تقوم بتصنيعها وتوريدها بضعة مصانع وشركات من القطاع الخاص، وهذا كله يمثل دعما غذائيا محدودا للأطفال ولكنه لا يكفى لتحقيق الأهداف الصحية والتعليمية والاجتماعية التى يمكن لبرنامج قومى للتغذية المدرسية أن يحققها.
هذا البرنامج القومى يجب أن تتوافر فيه خمسة شروط رئيسية: الأول أن يشمل كل مدارس التعليم الابتدائى الحكومى والتى تضم ما لا يقل عن اثنى عشر مليون طالب، والثانى ألا يقل توزيعه عن مائة وخمسين يوما فى السنة لكل المستفيدين منه ويفضل أن يرتفع التوزيع إلى مائة وثمانين يوما، والثالث أن يقدم وجبة غذائية متكاملة معروفة السعرات والمكونات والخصائص الغذائية وفقا لمواصفات عالمية، وهذه لا يلزم أن تكون وجبة ساخنة ومجهزة فى المدرسة لأن مدارسنا ليست مؤهلة لذلك بل يمكن أن تكون وجبة جافة شريطة أن تتضمن مثلا شطيرة أو سندوتش، وقطعة فاكهة طازجة، وكوبا من اللبن. وقد شارك الكثير من الخبراء المصريين والدوليين فى دراسة أشكال وأنواع الوجبات الغذائية الجافة الكاملة والمناسبة للمجتمع المصرى وعلى رأسهم الدكتورة حبيبة واصف والتى تعتبر من أهم الخبراء الدوليين فى هذا المجال. أما الشرط الرابع فهو أن تكون الوجبات المدرسية جزءا من سياسة أكثر شمولا تتعلق بتشجيع الصناعات والخدمات التى تساهم فى إعداد وتوزيع وتخرين الوجبات بحيث تكون حافزا للإنتاج والتشغيل والاستثمار. والشرط الخامس والأخير هو أن يصاحب البرنامج حملة للتوعية بالصحة العامة وبالمأكولات والمشروبات الضارة بالصحة، وتنظيم مقاصف المدارس، بل وذهبت بعض البلدان إلى تنظيم ما يباع على الأرصفة والمساحة المحيطة مباشرة بالمدرسة فى إطار الحملة القومية لرعاية صحة الأطفال.
بقدر ما يبدو الموضوع صعبا ومعقدا، فإن عوائده هائلة، ليس فقط على صحة الأطفال، وإنما أيضا على انتظامهم فى الدراسة، وعلى معدل تركيزهم فى الفصول، وعلى تخفيف عبء التغذية من على كاهل أسرهم، وعلى منح كل طفل وطفلة الحق فى طفولة خالية من الجوع والأمراض المرتبطة به.
ومن خلال متابعتى للموضوع، كنت قد فهمت من نحو عام أو يزيد أن قرارا قد اتخذ بإطلاق هذا البرنامج القومى الشامل ووضعه تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعى لكى تنسق بين الجهات المختلفة التى يجب أن تتعاون فى نجاحه، المالية والصحة والتعليم والزراعة والصناعة، وتفاءلت خيرا بذلك. ولهذا فاجأتنى تصريحات السيد وزير التعليم بأن ما يجرى العمل على إعادته هو البرنامج القديم وأن المرصود له فى موازنة العام الحالى مليار جنيها فقط بينما تطبيق البرنامج القومى للتغذية المدرسية يحتاج إلى عشرين ضعف هذا المبلغ على الأقل. وهو بالمناسبة ليس مبلغا كبيرا بالنسبة للعائد الصحى والاجتماعى الذى يجلبه.
قد يكون المقصود من حديث السيد الوزير هو إعادة العمل بالنظام القديم لبضعة الأسابيع المتبقية من العام الدراسى الحالى تمهيدا لتطبيق البرنامج القومى الحقيقى فى العام القادم. وهذا يحتاج للتوضيح. ولكن فى كل الأحوال لا ينبغى أن نصرف النظر عن هدف تطبيق البرنامج القومى للتغذية المدرسية لأنه البرنامج التنموى الأكثر فاعلية وأداة الحماية الاجتماعية الأكثر كفاءة.