التاريخ هو الموروث الثقافى والدينى والحضارى الذي ينتمي إليه الإنسان ويتأثر به، ويظل هذا التأثير ممتداً جيلًا بعد جيل، ليشكل مجموعة القيم التي يعيش عليها المجتمع.
ويخطئ من يعتقد أن التاريخ مجرد قصص تسرد أو حكايات تروي، وإنما هو أمر غاية فى الأهمية لأن منه خلاصة التجارب واستخلاص النتائج وتجنب الأخطاء السابقة والتخطيط للحاضر والمستقبل.
وإذا تحدثنا عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية بمناسبة ذكرى رحيل ثلاثة من أعظم قادتها وتأثيرهم على المجتمع والمحيط الإقليمي، فإننا يجب أن نبدأ من حيث بداية التاريخ المعاصر لمصر والمحدد بثورة الشعب المصري على الوالي العثمانى خورشيد باشا وتولي محمد على السلطة فى عام 1805 الذى لقب بمؤسس مصر الحديثة بعد أن شهدت مصر فى عهده نهضة غير مسبوقة، وامتدت حدود الدولة المصرية لتشمل بلاد الشام والحجاز والسودان وكردفان وبلاد المورة.
قاد حركة النهضة فى شتى المجالات العلمية والاقتصادية والعسكرية، وباتت مصر منافسة للدولة العثمانية وأوروبا.. الأمر الذى استدعى المؤامرة عليها واحتلالها عام 1882، ومع بدايات الاحتلال البريطانى وهزيمة أحمد عرابى فى التل الكبير، بدأت تخرج تيارات وطنية لرفض الاحتلال، وبدأ الزعيم مصطفى كامل بث الشعور القومي لمواجهة الإنجليز من مدينة الإسكندرية عام 1896 ولم يمهله القدر، واستكمل مشواره الزعيم محمد فريد الذي وصل إلى ذروة الصدام مع الحكومة الموالية للاحتلال عام ،1909 وتمت محاكمته وسجنه، وفى ظل تنامي الشعور الوطني وتيار التجديد الذي قاده الإمام محمد عبده وقاسم أمين ولطفى السيد وغيرهم كانت مصر فى انتظار قائد جديد يقود مسيرة التحرر الوطني.
هنا تأتى عبقرية زعيم الأمة الذي عايش وشارك كل إرهاصات ومحاولات الوطنيين المصريين مواجهة الاحتلال دون جدوي.. أيقن سعد زغلول أن كلمة السر فى هذه المعادلة هى «قوة الجماهير»، وعليه بدأ فى عملية التمصير وتوحيد تيار الحركة الوطنية، بهدف حشد كل قوى الشعب فى مواجهة الاحتلال، وكان هدفه الأول صلابة ووحدة الجبهة الداخلية.
وبدأ المواجهة مع الاحتلال فى 13 نوفمبر باعتباره وكيلاً للجمعية التشريعية.. ثم كانت التوكيلات من الشعب لسعد زغلول ورفاقه دلالة واضحة على نجاح سعد زغلول فى إشراك الشعب المصري في قضيته المصيرية، وهو الأمر الذي أتي ثماره في ثورة 1919، واعترفت بريطانيا فى وثائقها بأن سعد زغلول نجح فى استدراج بريطانيا، والأخطر أنه أدرك أهمية قوة الجماهير وتوحيد جبهته الداخلية. وترسيخ مبادئ جديدة فى قلوب وعقول الشعب المصري، لعل أهمها أنه رسخ لدولة المواطنة على أرض مصر عندما علا شعار الدين لله والوطن للجميع وعاش الهلال مع الصليب، وخروج المرأة المصرية لأول مرة للمظاهرات بجوار الرجل.
ثم كان نداء سعد زغلول لأثرياء مصر بسحب أموالهم من البنوك الإنجليزية وشراء صكوك بنك مصر لتحقيق مشروع طلعت باشا حرب الاقتصادي.. ولم يقف الأمر عند حصول مصر على استقلالها عام 1922 وتحولها إلى مملكة دستورية مستقلة ووضع دستور 1923 الذى رسخ للدولة الوطنية المصرية والتعددية السياسية والحريات العامة وحقوق المرأة والعمال ودولة القانون.
وإنما تحول سعد زغلول إلى أيقونة الثوار والمجاهدين فى العالم أجمع، وفتح الطريق لكل حركات التحرر فى العالم ويسير على درجة تلميذه غاندي فى الهند ويقول قولته الشهيرة «سعد ليس للمصريين فقط ولكن للعالم أجمع»، ويرحل زعيم الأمة فى 23 أغسطس عام 27 ويستكمل مشواره الزعيم خالد الذكر مصطفى النحاس ويعقد اتفاقية 1936 التي حددت وجود القوات البريطانية فى مدن القناة فقط على اعتبار أن قناة السويس مجرى ملاحي دولي.
وعندما شعر النحاس بتأثير الإنجليز على الملك والتدخل فى الشأن المصري والوقوف ضد حكومات الوفد التي رسخت أركان الدولة الوطنية المصرية وحقوق العمال ومجانية التعليم وإنشاء الجامعة العربية وغيرها من المشروعات الوطنية قرر النحاس فى جلسة تاريخية للبرلمان المصري في أكتوبر 1951 إلغاء معاهدة 1936 واعتبار أي جندي إنجليزى في مدن القناة غير شرعي، وهو ما اعتبره تشرشل أكبر إهانة فى تاريخ بريطانيا.
وبدأت العمليات الفدائية في مدن القناة برعاية الوفد ودعم وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين والتي انتهت بمعركة الشرطة المصرية مع قوات الاحتلال فى 25 يناير عام 1952 وتخلد ذكرى هذه المعركة بعيد الشرطة حتى الآن.
ولم يجد الإنجليز بديلاً عن إزاحة الوفد إلا بحريق القاهرة فى اليوم التالي لمعركة الإسماعيلية من خلال جماعة الإخوان المسلمين وتواطؤ القصر.
إذا كنا نحتفى سنوياً فى شهر أغسطس بذكرى رحيل زعماء الوفد والحركة الوطنية المصرية.. فإننا نحتفى بقيم ومبادئ الحركة الوطنية المصرية التي رسخت لمعني وقيمة الدولة الوطنية، ورسخت لهوية مصرية على مدار قرن من الزمان يصعب خدشها أو الاقتراب منها.. ولم تكن ثورة الثلاثين من يونيو إلا تعبيراً صادقاً ونتاجاً طبيعياً لهذه الهوية المتجذرة في قلب وعقل كل مصري.
ولم يكن التفاف الشعب المصري حول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلا تأكيداً وإصراراً على تمسك المصريين بهويتهم وقيمهم ودولتهم الوطنية.
رحم الله كل زعماء الأمة، وحمى الله مصر.
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t – F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية