أولًا.. هذا مقال جاد جدًا.. ليس هدفه السير وراء هيستريا السخرية من اللص الذي قام بسرقة الهاتف المحمول الخاص بصحفي «اليوم السابع» أثناء قيامه بعمله، حيث كان يقوم بنقل بث مباشر لتغطية الحالة التي عليها القاهرة عقب وقوع الزلزال، صباح أمس الثلاثاء. والذي لم يسفر عن أية خسائر بحمد الله.
ولكن المقال محاولة لمناقشة تطور أدوات الإعلام في العالم، ووصول هذا التطور إلى مصر، لدرجة جعلت مصر كلها تشاهد «لص» يتمكن من سرقة أداة عمل صحفي على الهواء مباشرة.. وهو قطعًا حرامي سيئ الحظ جدًا، لدرجة جعلت ما يقرب من 20 مليون متابع لصحافة «اليوم السابع» يشاهدون عملية السرقة على الهواء، وما بعد الهواء، وأتصور أن هذا اللص التعيس سوف يتم القبض عليه قبل أن أتمكن من نشر هذا المقال.
جيلي الذي عمل في الصحافة الورقية التقليدية، بطريقة عملها الكلاسيكية، يدرك مدى التغير الذي حدث في المهنة، من حيث الأدوات، ومن حيث التناول، والاتجاه، والاهتمامات، ولذلك نستطيع القول إن مهنة الصحافة في العالم تم اقتسام توجهاتها بين المؤسسات الصحفية وبين القارئ، فلم تعد الصحافة هي التي توجه الرأي العام، في معظم مساحات الرأي.
ولكن أصبح الرأي العام هو الذي يقوم بتغيير توجهات الصحافة نفسها في كثير من الاتجاهات، وأصبحت المسألة تخضع لما يسميه الجيل الجديد «الموود» الخاص بالقارئ، فالقارئ الذي يرغب في البحث عن حدث يجبر جميع الصحف والصحفيين، على السير في اتجاه هذا الحدث، ومثال ذلك أنني شخصيًا تعمدت أن أكتب عنوان مقالي هذا متوافقًا مع «الترند» فقد أصبحت جملة «حرامي الموبايل» مجالًا للبحث خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية، حتى إنها طغت على كلمة «الزلزال» التي كان من الطبيعي أن تتصدر محركات البحث، ولكن جاء هذا اللص، كي يتصدر محركات البحث، ويركب الترند، بعد أن ركبه النحس، ليجعلنا نعود إلى طرح السؤال: هل ستشهد مهنة الصحافة تغيرات أخرى؟!
أعتقد أن التغيرات لم تنتهِ بعد، وسوف تشهد المهنة تغيرات أخرى سريعة، خلال وقت قصير، لأن دخول التكنولوجيا، وطغيانها على مهنة الصحافة يُنذر بتطورات قد لا تستطيع إلا مؤسسات قليلة في مصر مواكبتها، ما يهدد باقي المؤسسات بالإغلاق، والاندثار، وهذا بدوره قد يترتب عليه مخاطر مهنية كبيرة، ومخاطر إنسانية جسيمة، لأن عددا كبيرا من الصحفيين لن يجد له مكانا للعمل ما لم يقم بتطوير نفسه وأدواته، وما لم تقم مؤسسته الصحفية بهذا التطوير.
أتذكر أن الأستاذ جمال بدوي رئيس تحرير الوفد الأسبق رحمة الله عليه، قد تمكن في مطلع التسعينيات من إدخال نظام تجميع الصحيفة وتجهيزها عبر أجهزة الكمبيوتر، والناشر الصحفي، والاستغناء عن نظام «البرمويد» اليدوي، وأصبحت الصحيفة يتم تجهيزها في وقت اقل وبكفاءة أكثر، وكانت طفرة ظللنا نتحدث عنها كثيرًا، وكان مجال التفاخر بين الصحفيين، والتنافس بينهم هو جملة «بتوزع كام» وتغيرت هذه الجملة الآن إلى عملت كام «ترند»!! المفاهيم تغيرت وأدوات العمل شهدت ثورة تكنولوجية مخيفة، ولن يبقى إلا من يقرأ المستقبل.
منذ ما يقرب من 20 عامًا كنت في زيارة عمل قصيرة للولايات المتحدة. وهناك طلبت من مرافقي في الرحلة، زيارة صحيفة كبيرة. وبالفعل تمت دعوتي لزيارة صحيفة «ميامي هيرالد» اليومية في ولاية فلوريدا. وقابلت مدير تحرير الصحيفة، بعد جولة قضيتها في المطابع والأقسام التحريرية، وبادرت بسؤال مدير التحرير: ما أرقام توزيع صحيفتكم لأنني لاحظت أن لديكم مطبعة ضخمة، وعدد المطبوع من الصحيفة كبير جدًا.
فقال لى بكل ثقة: نحن نوزع 800 ألف نسخة يوميًا!! فقلت له هذا رقم ليس كبيرًا للتوزيع في كل الولايات المتحدة – التي يتجاوز عدد سكانها حينها 280 مليون نسمة- فابتسم مدير تحرير «ميامي هيرالد» وقال لي: نصف الكمية نوزعها داخل مدينة ميامي فقط والنصف الآخر نوزعه في باقي مدن ولاية فلوريدا.. فبادرته بسؤال مباغت: ما سعر الصحيفة؟ فكان الرد غريبًا وجديدًا على أذني، فقد قال: ببلاش!!! نحن نوزع الصحيفة مجانًا.. قلت له: كيف؟ ومن أين تنفقون عليها؟ قال: من الإعلانات، لأن المستقبل للصحافة المجانية. وأنتم في مصر سوف تشهدون عزوفًا عن شراء الصحف خلال عشر سنوات، وستضطرون لتوزيعها مجانًا!! .
ولكن يبدو أن «نصف» توقع الرجل لمهنة الصحافة في مصر قد تحقق، ولم يوفق في النصف الثاني من توقعاته. لأن الناس عزفت بالفعل عن شراء الصحف الورقية المطبوعة. ولكننا لم نستطع جميعًا – في كل الصحف – من تطبيق نظام التوزيع المجاني. حتى التجربة الوحيدة التي تم تنفيذها في نطاق التوزيع المجاني، للصحيفة اليومية. لم يحالفها التوفيق، وهي التجربة التي قام بتنفيذها الأستاذ سمير رجب منذ 12 عاما تقريبًا. عبر صحيفة يومية مجانية قام بتأسيسها وكانت تحمل اسم «24 ساعة». ورغم أن سمير رجب صحفي كبير وموهوب، لم تنجح التجربة. لأن طريقة التوزيع كانت خاطئة، وهي طريقة جعلت قارئ الصحيفة عشوائيا ومؤقتا. ولذلك عزف المعلنون عنها فتوقفت بعد أن تكبدت خسائر فادحة!
الآن.. أصبحنا في زمن الموبايل، الذي أصبح أهم أدوات الصحافة والإعلام.. وقد يصبح الموبايل بعد فترة من الزمن أداة قديمة، وهو ما يتطلب التدريب والتأهيل للصحفيين على الأدوات الجديدة، دون توقف…أيضًا، نحن أصبحنا في زمن التكنولوجيا، التي تتطلب وجود مهندس برمجيات، وخبراء في مواقع التواصل الاجتماعي، بجانب الصحفيين، وإلا سيضيع الخبر في الزحام، حتى لو كان انفرادًا تاريخيًا!!
tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية t – F