منذ نحو 55 عاماً كتب الأديب السوداني الطيب صالح روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال». وعلى عكس رواية الطيب صالح نحن نعيش هذه الأيام الموسم الحقيقي للهجرة من الشمال نحو جنوب مصر.
وفي كتابه «شخصية مصر وتعدد الأبعاد والجوانب»، يشير الدكتور جمال حمدان إلى أهمية صعيد مصر في تأكيد الطابع النيلي لمصر؛ حيث مَثل الصعيد في فكر جمال حمدان شرياناً إلى قلب القارة السمراء حتى وصل إلى إثيوبيا القديمة، وكما صدرت مصر حضارتها وعقيدتها الفرعونية إلى الجنوب، كررت دورها مع المسيحية والإسلام.
وقد انطلق البعد النيلي لمصر بعد فتوحات القرن التاسع عشر في السودان حتى وصل إلى بحر العرب وبحر الغزال في السودان، ثم تحول إلى الشرق باتجاه الصومال وأريتريا وإثيوبيا بفعل مستنقعات النيل ولم يوقفه هناك إلا سد الاستعمار.
قضية تنمية الصعيد، دائماً وأبداً ما كانت تثير إشكاليتي: ثنائية المركز والأطراف وهي إحدى الثنائيات التي ظلت تحكم العلاقة بين العاصمة والمراكز الرئيسة بأطرافها أي بهوامشها في ثنائية ضدية، وكذلك عدالة توزيع الموارد والتنمية، فمن أبشع أنواع التمييز تمييز التنمية وعدم عدالة التوزيع بين أقاليم الدولة المختلفة.
ولمّا كان تحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية حقاً أصيلًا من حقوق المواطنين على اتساع الجمهورية. وكانت العزلة والتهميش هي عنوان ما يعيشه المواطنون في محافظات الصعيد وسيناء والوادي الجديد. انطلقت مبادرات الدولة المتعددة في كافة النواحي والمجالات في صعيد مصر وجنوبه. حيث تمثل هذه التنمية في جوهرها معالجة للعديد من المشكلات الاجتماعية المحلية وتعزيز للأمن المجتمعي ودعم صلابة التماسك الاجتماعي والذي يؤدي ضعفه إلى العديد من الانعكاسات الأمنية السلبية؛ وتحريرًا للمواطنين من العوز والاحتياج، الذي أجبرهم نتيجة عقود التهميش إلى اللجوء إلى تيارات ذات أهداف أخرى والاعتماد عليها في توفير هذه الخدمات والاحتياجات مثلما كان يحدث في السابق.
فالشعور بالعوز والاحتياج أحد أهم مسببات انعدام الأمن واللجوء إلى الجرائم الجنائية والإرهابية. انطلاقًا من الشعور بالاضطهاد والتهميش. وعدم القدرة على استيفاء الاحتياجات الأساسية؛ إذ يمثل هذان العاملان أرضية خصبة للتجنيد من قبل التيارات المحظورة.
الآن اتجهت دولة 30 يونيو بقوة إلى صعيد مصر بعد عقود من التراجع والتهميش. وتركيز مخططات التنمية في المركز في العاصمة ودلتا النيل. ليشهد الصعيد ثورة من المبادرات المجتمعية والصناعية. حيث تم زيادة الاستثمارات الموجهة لمحافظات الصعيد خلال 5 سنوات بنسبة 450% لتحسين جودة حياة المواطنين في صعيد مصر.
وخلال السبع سنوات الماضية أنفقت الدولة نحو 350 مليار جنيه لمشروعات التنمية بالصعيد في الفترة من 2014 إلى 2021. على مستوى الرعاية الاجتماعية؛ تم تخصيص نسبة 70% من مخصصات «تكافل وكرامة» لقرى الصعيد. لتتراجع نسبة الفقر بالصعيد نحو 5 درجات. كذلك تم تغطية نحو 99.5% من السكان في صعيد مصر بمياه الشرب في إطار الدور المحوري للمبادرة الرئاسية «حياة كريمة» في توفير الخدمات لملايين الأسر.
غير أن الأبرز في معالجة إشكالية التنمية في الصعيد هو توجه الدولة لتعميق التصنيع في جنوب مصر، والذي أصبح يمتلك بيئة جيدة ومناخ مواتي لتشجيع الاستثمار الصناعي من خلال تطوير وترفيق البنية التحتية اللازمة لإقامة المناطق الصناعية، ثم اتجاه الحكومة لإنشاء 9 مجمعات صناعية جديدة في 8 محافظات بصعيد مصر، ليصبح الصعيد نقطة ارتكاز وانطلاق هامة نحو الثورة الصناعية الرابعة الذي يتجه إليها العالم، وكذلك هي خطوات جادة لمواجهة البطالة والتطرف والقضاء على الأمية والهجرة الداخلية.
لتنعش التنمية قلب الجنوب، وتعطي قبلة الحياة للصعيد في الجمهورية الجديدة، وتصبح الهجرة في المستقبل إلى الجنوب إلى الصعيد.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية