مرّ أسبوع كأنه دهر على رحيل ريحانة الروح، إنها «جدتي»، ويعزّ عليّ أن أسبق وصفها بـ«كانت»، رحلت وتركت في القلب ندوبًا لا تُمحى، وغصّة عالقة بالقلب طوال العمر.
أمّا بعد.. فإن الرحيلَ فرضُ عينٍ، وما نحن سوى أمواتٍ من رَحِم أموات، وكأسُ الموتِ زائر ذوينا فردًا فردًا، على كفّ ساقٍ لا يتمهّل، فيذيقنا مُرَّ الوجيعة.
لكنّه فراقك يا «جدتي» أشقى روحي، حتى قلبي إن سَلِمَ من الداءِ لا محالةَ ستطوّقهُ وحشة غيابك، فأنتِ العزيز بين أطباقِ الثرى، وهنا يكمن نوعٌ صعيبٌ وعصيبٌ من الوجعِ لم يجربهُ إلّا من ماتت جدته.. ولكن تلك هي «الحياة» أشبه بالعسل الناقع المرار أو مرار حُلو المذاقِ، ونحن أمام أقدار الله الكونية كالبعوض لا نملك من الأمر شيئًا، سنسلم للأمر راضين حتى يرضى الخالق، لكنّ القلبَ المشتاق إذا أضناه البعد حُقَّ له أن يئنّ ألمًا وأن يذرفَ وجعًا لفراق الأحبة، يا صاح، ليس على العيون الموجوعة سلطانٌ..
يا صاح، إنّ للفراق نارًا يكتوي بها قلبُ المحب فلا يبرأُ من دائه العُضالِ ولا يشفى، نارًا كنارِ الدنيا بل أشد وأنكى.
«وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ».. قالها أبو فراس الحمداني، لتعيد إلى ذهني ليلة الخميس، ليلة غاب فيها البدر برحيل «جدّتي بدرية» صحوت فجرًا مع أنسام الصباح أناديها صارخة: وجدّتاه! لينهض لها وجعي فيزيد عليها مع الآهِ ألف آه. حين أبلغني أبي خبر وفاة جدّتي، استولى عليّ الصمت دقائق مرت كالدّهر، لم يكن ثمةَ ردّ يمكن أن يصدر منّي بعدما أذهلتني الصدمة أيّما ذهول.
جدتي؟ نعم كانت مريضة، لكنها جدتي، ماتت؟
ترقرقت دموع من عيني ضقت بحبسهنّ ذرعًا، بكيتُ حتى بُحّ صوتي، فمددت يدًا مرتعشةً أُكفكفها، ياللوجع! ماتت من كانت لطفًا يهون مرارَ الدنيا، كان مرورها على بؤسي ووجعي على درجة من الرقةِ كما لو أن أملًا مرّ على مُرّ فحلَّاه، كانت أجمل هبات الله، وأحلى عطاياه، ماتت البلسم التي تنهار أمام جَبَروته جراحي، ومن الطبيعي أن تذبلَ روحي وتنزفَ جروحي وجعًا برحيلها، لكن الموت يبقى هو الفيصل والكلمة الأخيرة، هو الحاكم الذي لا يُنازَعُ في سلطانه ولا رادَّ لقضائه.
سافرنا إليها لنوّدعها، وإذا بكلامها ودعواتها وحبها ذكريات تتوالى أمامي تترى فلا تزيدني إلا وجعًا.. وصلنا إليها على وجلة، والحشود بالعشرات حضروا مُعزّين، داخل البيت الذي صارت زواياه مظلمة، ألقيت السلامَ وانتحيت جانبًا.
«أود رؤيتها يا خالي».. كانت تلك أولى كلماتي بعد احتضان أمي ومواساتها، دخلت وإخوتي لنلقي عليها نظرة الوداع فُرادى، رأيتها وقد عسّ الموت جبينها ورفرف طائره بين عينيها. فإذا بهيبة الموت تحل فتمكنتْ مني، وأمسكتْ الذكرياتُ بتلابيبي واستولت على قلبي، ولكن عزائي الدائم لنفسي ولنا جميعًا أنكِ ذهبتِ لمن هو أعز وأكرم على قلبكِ منّا.
لا تزال الأوجاع مطبقة بالقلوب كَشِقَّيّ رحىً وممسكةً بالتلابيبِ كأنها وحشٌ مفترسٌ حتى تنقضيَ الأيامُ وتُنذرَ الدنيا بالرحيل.
ألا فطيب اللهُ ثراكِ يا جدتي.. اللهم ارحم جدتي بقدر ما تمنيت لها البقاء واروِ قبرها بنهر من جنتك، اللهم أذقها من النعيم ما وعدت به المؤمنين، اللهم ارحمها بقدر ما أوجعني رحيلها واجعلها في نعيم دائم غير منقطع يا رب.
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويترلمتابعة أهم الأخبار المحلية