عندما تسرد تاريخ حزب الوفد، لا يمكن أن تتجاهل رجلًا اسمه مكرم عبيد، سكرتير عام الوفد، الذي كانت تهز سيرته، الشارع السياسي، ويهز صوته جنبات المحاكم خلال عمله كمحامٍ قدير، وهي المهنة التي سار في طريقها معظم قيادات الوفد، لارتباط هذا العمل بالدفاع عن استقلال الوطن، وحرية المصريين، خلال سنوات طوال من الكفاح الذي قاده هذا الحزب العريق، عبر مائة عام كاملة.
صحيح أن مكرم عبيد، اختلف مع زعيم الوفد، وصديق عمره، مصطفى النحاس. في واقعة شهيرة عام 1942 حملت اسم «الكتاب الأسود».. وصحيح أن «مكرم» قد تحامل على «النحاس»، وأخطأ في حق الوفد، وصحيح أن الوفد أعلن تماسكه، وضحى بقيمة كبيرة مثل «مكرم»، والتف الجميع حول زعيم الوفد، وهو الأمر الذي جعل الوفد يتمكن من البقاء والاستمرار، ولكن حجم وقيمة «مكرم» لا يمكن تجاهلها، فقد كان قيمة سياسية وقبطية وقانونية عظيمة.
«مكرم» هو صاحب مقولة «إن مصر ليس وطنًا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا» والتي أصبحت شعارًا يتمسك به كل الأقباط تأكيدًا على أن مصر ليست مجرد أرض يعيشون فوق بساطها، بل هي عشق وروح التصق بالجسد.. وهو أيضًا صاحب مقولة «اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين»، في تفسير عبقري لفكرة «المواطنة» التي نسعى لشرحها منذ عشرات السنين ولم يعد يفهمها إلا من كان قلبه سليمًا تجاه وطنه، فالمواطنة هي الفكرة التي تجعل علاقة المصري بوطنه علاقة عادلة، لا أصل لها ولا مصدر سوى التزامك كمواطن بواجباتك تجاه وطنك، والتزام الوطن تجاهك بمنحك كل الحقوق دون العودة إلى مصدر عبادتك وانتمائك الديني.
من أفضل ما قرأت حول شخصية مكرم عبيد «المسيحي الديانة» هو تفاصيل قضية اشتهرت قبل سنوات طويلة بطلها اثنان من المواطنين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، والغريب أن القيادي الوفدي القبطي مكرم باشا عبيد قد ترافع عن المواطن المسلم، رغم أن هذا المواطن قام بسب الدين للمواطن المسيحي!!
الحكاية المثيرة قام بروايتها الكاتب فؤاد اسكندر، ونشرتها صحيفة «الوفد» منذ سنوات، حيث بدأت القضية بمشاجرة في إحدى قرى مصر بين شابين، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، وقام المسلم بـ«سب الدين» للمسيحي، فما كان من المسيحي إلا أن رفع دعوى قضائية ضد جاره.. فسارع أهل الشاب المسلم وتوجهوا إلى القيادي الوفدي الكبير المحامي مكرم عبيد، وطلبوا منه أن يدافع عن ابنهم، خاصة أنهم علموا أن الشاب المسيحي أحضر شهودًا على الواقعة كان من بينهم مسلمون، وكانت المفاجأة أن مكرم عبيد وافق على تولى الدفاع عن الشاب المسلم في القضية.
في جلسة المحكمة، ألقى القيادي الوفدي، مرافعته أمام القاضي، مؤكدًا أن الشاب المسلم لم يتعلم في المدارس، وأن كل ما حصل عليه هو ما تلقاه في كُتاب القرية من حفظه للقرآن الكريم والأحاديث النبوية وبعض العمليات الحسابية البسيطة.
وأشار مكرم عبيد، إلى أن الأطفال في ريف مصر يتعلمون في الكتاتيب أن «الدين عند الله الإسلام». ومن ثم فإن الشاب المسلم لم يقصد «سب الدين» لأنه لا يرى دينًا آخر غير الإسلام. وبالتالي انتهت الجريمة من وجهة نظر الدفاع.
وأضاف مكرم عبيد في مرافعته الشهيرة.. «القول بأن سب الدين لقبطي جريمة. هو قول يخالف الأصل التشريعي الذي تسير عليه القوانين في مصر من أن الدين المقصود هو الإسلام. لأنه هو الدين الوحيد الذي يعتبره الإسلام دينًا».
وهنا نظر رئيس المحكمة إلى مكرم باشا عبيد وقال له: «هل تؤمن بما تقول يا أستاذ مكرم؟».. فرد مكرم عبيد: «يا سيدي القاضي أنا أقول ما تؤمن أنت به وهو «لكم دينكم ولى دين». فضجت المحكمة بالضحك من رد مكرم عبيد، فأصدر القاضي حكمه بالبراءة.
قطعًا.. رغم هذه المرافعة لم تتغير التشريعات التي تؤدى إلى تجريم سب الدين المسيحي. إلا عندما تمت إضافة المادة 98 فقرة (أ) من قانون العقوبات والتي وضعها الرئيس السابق محمد أنور السادات. عندما استخدمت الجماعة الإسلامية منابر المساجد للإساءة للدين المسيحي. فأضاف «السادات» هذه المادة التي تجرم سب الدين بصورة عامة. ونصت المادة على «يؤثم الازدراء بالعقيدة الدينية ويعاقب مرتكبها بالحبس من ستة شهور إلى خمس سنوات. وغرامة من خمسمائة جنيه إلى ألف جنيه مصري».
ورغم مرور سنوات حتى صدور قانون ازدراء الأديان. إلا أن المحاكم لا يمكن أن تنسى مرافعة مكرم عبيد باشا. الذى ترافع عن الشاب الذى «سب دين مكرم نفسه» ليعطى درسًا. ويلفت الانتباه لظاهرة منتشرة في الأرياف، أدت- بسبب السكوت عليها- إلى وصولها لمنابر المساجد!
tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويترلمتابعة أهم الأخبار المحلية