ساعات ويلتئم شمل الصحفيون في مقر نقابتهم الكائن وسط القاهرة شارع عبد الخالق ثروت بعد غياب لسنوات طويلة غلت خلالها بـ«الحديد والخيش» بدعوى تطوير لم يتم، أو تحسين لم يحصل، على واجهة مبناها الذي كان فخما ورائقا، إلا أنه عاد بشكل مختلف يتناسب وطبيعة المرحلة التي نعيشها.
ولكن المهم أنه عاد إلينا مجددا أيا كان شكله.. نأمل أن تزول عنه كل المشوهات التي حولته في وقت من الأوقات إلى ما يشبه المغارة الموحشة التي تبث الرعب والفزع والخوف في نفوس كل من يقترب منها حتى أصبح الداخل إليها إما بطل مغوار فمفقود، والخارج منها مولود بعملية قيصرية مشوها نفسيا.
نجتمع خلال ساعات على انتخابات جديدة تنعقد في ظل ظروف صعبة وتنعقد هذه الانتخابات كل عامين مرة على تجديد نصف الأعضاء ( 6) والمرة التي تليها على النقيب والنصف القديم رغم أن النصفين بحاجة إلى التجديد والتغيير الكامل فلا القديم حقق ما وعد ولا الجديد سيتمكن من فعل جديد، وتستمر مسرحية الانتخابات على أشدها وحرارتها والجنازة فارغة.
هذه المرة زاد الصراع رغم أنها لا تختلف كثيرا عن المرات الخمس السابقة، بل أراها استكمالا لها، وأصبحت نقابتنا التي كانت قلعة الحريات في عقود سابقة ومنذ انشاءها في 31 مارس 1941 م وحتى تسعينيات القرن الفائت ملاذا للمظلومين.. حامية للأحرار.. منبرا للوطنيين المدافعين عن الوطن وقضاياه.
ولا يمكننا أن ننسى أبدا أن كل الحركات الوطنية تقريبا بدأت من هنا من على سلم نقابتنا العريقة أو من أحد ردهاتها أو حتى من عند مؤسساتها التي كانت لفترة قريبة حامية للحريات.. ودارا للإنصاف، متبنية للدعوات الوطنية والحرية والمطالبة بالعيش الكريم.
ودائما ما كانت الدولة تعمل ألف حساب لهذه النقابة التي كانت برجالها مقصدا لمن يريد أن يدافع عن حق أو ينصر وطن على اتساعه مصريا وعربيا، ولا يمكننا أن نغفل أبدا ما قامت به لجان الحريات عبر عصورها الممتدة والتي قاربت على أن تكمل قرنا من الزمان خلال سنوات قادمة قد نشهدها أو الأجيال الصاعدة لذلك.
ولن أغفل أن عمليات الشد والجذب بين طرفي المعادلة.. النقابة من جهة.. والسلطة التنفيذية في الجانب الآخر كل يريد صالح الوطن من وجهة نظره التي يرى أنها الصواب. ولكن كان الفارق أن النقابة كانت تتحرك من منطلق الصالح العام ولا يعنيها سوى الوطن الحقيقي، وليس لها مآرب أخرى، أما السلطة التنفيذية فقد كانوا يدافعون عن وجودهم وكراسيهم والنظام الذي يحكم، باعتبارهم الوطن والوطن هم.
وبقدرة قادر تحولت الدنيا وانقلبت الأوضاع وأصبحت نقابتنا قلعة الحريات سابقا تلهث خلف الخدمات، ومرتبطة بها ارتباطا وثيقا، بعدما كانت الحكومات المتعاقبة تعمل على استرضاء النقابة بأعضائها وتحاول أن تلطف العلاقة وتلبية احتياجات ومطالب الصحفيين، وكذلك توفر لهم البيئة المناسبة لأداء عملهم وقتما كانت للكلمة قيمتها.. وللصحيفة وجودها، وللمقال أثره وللتحقيق الصحفي فعاليته وللتصريح والحوار والحديث والخبر وقعه المدوي في الأرجاء.. ووصلنا إلى اليوم الذي نستجدي فيه لقمة العيش التي أصبحت شحيحة كشح الابتسامة على وجوه المصريين حالياً بسبب الغلاء الذي اغتال روحهم.
وأصبح الصحفيون يفرحون بفتات تلقيه لهم الحكومة، ومما يثير العجب والغضب أن يكون معيار اختيار النقيب أو حتى أعضاء مجلس النقابة هو حجم زيادة البدل الذي هو بدل هزيل في الأساس فلا يقيم أودا ولا يسد رمقا.. بضع مئات من الجنيهات.. وكانت الزيادة الأخيرة التي تندر عليها الصحفيون انها تعادل ثمن «2 كيلو لحمة» معبرة عن هذا الوضع البائس للجماعة الصحفية، فهذا الوضع هو الأسوأ منذ إنشاء النقابة.. ليس هذا فحسب بل منذ أن عرفت مصر الصحافة بمفهومها الحالي، فقد فقدنا القيمة المعنوية والأثر الإنساني والمجتمعي، الذي كان سلاح الجماعة الصحفية التي كانت تعبر عن ضمير الوطن لتكون حاليا معبرة عن بطون الصحفيين وضمير النظام في آن واحد.. وذلك لأننا هنا على أنفسنا فهان الوطن علينا.. وأضحى لا يفرق معنا شيء من هذا الأمر نهائيا فتحولنا الي مهنة يمكن الاستغناء عنها، مثلما تم الاستغناء عن مهن كثيرة استبدلت بأحدث منها بعد تطويرها كمهنة السقاء والداية وغيرهما.
نحن أصبحنا جماعة هامشية بأيدينا .. والعجيب تجد الكثير من المرشحين لمنصب النقيب أو العضوية يتشدق باستعادة كرامة الصحفي والمهنة، ومهنية الصحافة في الوقت الذي يعلن فيه عن نجاحه المبهر في الحصول على موافقة الحكومة علي زيادة بدل هزيل أو خدمة إعفاء للصحفيين من رسوم الموت والدفن… وهذه الخدمة تحديدا أثارت سخرية الزملاء الذين بكوا دما قبل الدموع على أنهم لا يستطيعون العيش الكريم الآن، ومرشح يتحدث عن هذه الخدمة لنقل الميت بموجب كارنيه النقابة.
هل تخيلتم معي المستوى الذي وصلنا إليه.. فهذا هو الوضع الآن.. ولقد قلتها واقولها وأكررها طالما تدار النقابة والجماعة الصحفية من الخارج معناها لن تقوم لها قائمة.. وطالما مواردها من جيوب غيرنا لن تقوم لنا قائمة.. طالما وطالما وطالما والكثير من النقاط والملاحظات على المعركة الانتخابية في نقابتنا كثيرة وكثيرة جدا.. ولا يمكن حصرها ولكني أستطيع القول إن هذه المعركة حامية الوطيس وتدور بين الحريات (بخجل) والخدمات بتبجح وشراسة وعدم احترام للجماعة الصحفية وانسياق الجميع الا ما رحم ربي نحو الخدمات.. فإن المهنة والجماعة والنقابة في خطر شديد.. فهي الآن في خبر كان.. وببساطة فإنه في هذا الزمن الرديء ستنتصر الخدمات على الحريات.. ولا عزاء للوطن..فأهلًا بالخدمات ووداعا للحريات.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأ خبار المحلية