العصفورية هو آخر كتاب لرائدة النهضة النسوية في القرن العشرين كما وصفها الدكتور مصطفى عبد الرازق الذي كان أحد معجبيها فلم يمنعه وقاره وهو شيخ الأزهر من أن يكتب لها ثلاثة رسائل من باريس وألمانيا يقول فيها أحب باريس لأن بها شبابي وأملي، ولكني اتعجل العودة إلى القاهرة لأنه يبدوا أن فيها ما هو أحب من الشباب والأمل.
هكذا كانت «مي زيادة» المولودة في الناصرة بفلسطين من أم فلسطينية سورية وأب لبناني وحصلت على الجنسية المصرية وقد جاءت إلى القاهرة تحمل كل مظاهر التحرر وهي في سن العشرين لتلتحق بكلية الآداب واشتهرت بجمالها وذكائها وفصاحتها فقد تزودت بكل أنواع الثقافة وصقلت موهبتها بالقرآن الكريم وهي المسيحية المارونية والتي كتبت في كبريات الصحف أقوى المقالات وألفت 14 كتابا كان أولهم المساواة وباحثة البادية وعائشة التيمورية وبين المد والجزر والأخير كان كتابا مشتركا مع جبران خليل جبران الذي كان الوحيد الذي استولى على قلبها فأحبته ستة عشر عاما دون أن تراه.
وكانت تبث حبها إلى الورق وترسله له وتقول أحمد الله أنني أكتبه فلو كنت أمامي لن أستطيع قوله وربما أتوارى خجلا حتى تنساه.
وفي 1913 افتتحت صالون ثقافي كان الأطول عمرا فقد انعقد بشارع مظلوم بباب اللوق لخمس وعشرون عاما كان ملتقى كل رواد الفكر.. أحمد شوقي الذي قال فيها «إذا نطقت صبا عقلي إليها وأن بسمت إلى صبا جناني» وهام فيها أنطوان الجميل وذاب العقاد فيها عشقا فقد كان يغازلها فتومئ بأصبعها كالمنذرة المتوعدة فإذا نظر إلى عينيها لم يدر؟
أتستزيده أم تنهاه.. أما الشاعر ولي الدين يكن فقد مالت إليه اشفاقا عليه لمرضه ومصطفى صادق الرافعي الذي كتب فيها قصائد وحافظ ابراهيم وطه حسين ومحمد رشيد رضا وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وقد وصفها أحمد حسن الزيات بالظاهرة العجيبة «صاحبة صوت جميل يصل من الأذن إلى القلب مباشرة».
ومع ذلك كانت قديسة راهبة.. ومن كلماتها.. «جبار هو ذاك الذي يكون شعاره في الحياة ستألم ولكن لن أغلب بضم الألف.. الألم الكبير تطهير كبير.. اليس من الدهشات أن مظاهر الباطل أقدر على الاقناع من مظاهر الحق.. الثورة جرأة في وقتها ومكانها عبقرية وانتصار وفي غير ذلك حماقة واندحار.
ولعل هذه الكلمات الأخيرة فيها اسقاط على الحاضر وما يحدث في بلاد الشام فسقوط الأسد من المؤكد أنه أثلج صدر المظلومين والمكلومين ولكن ماذا عن سقوط عاصمة الخلافة الأموية بعد أن أصبحت مستباحة لنتنياهو وعصابته التي دمرت الجيش الأول وهكذا كان اسمه عندما كانت الجمهورية العربية المتحدة.. فقد استطاع تدمير جيش سوريا كاملا في ثلاثة أيام بعد أن استعصى عليه قرابة نصف قرن.. أليست هذه حماقة واندحار.. فالأفكار تتزاحم وتكاد تخترق جدار الصوت وربما تؤدي بنا إلى العصفورية وهي ليست مجرد أغنية للفنانة صباح كتبها ولحنها فيلمون وهبة خدني ووداني عالعصفورية وما طل علي.. والعصفورية هي مستشفى الأمراض العقلية وهي المكان الذي أودعوا فيه أقارب مي زيادة اياها في بيروت للاستيلاء على ميراثها الكبير بعد وفاة أبيها 1929 ثم حبيبها جبران بعده بعامين ثم امها بعد جبران بعام.
ولكنها ظلت تقاوم الوحدة والألم وعادت الى مصر بعد توسط كبار وعلية القوم حيث خرجت من المصحة بزفة لتلقي محاضرة في الجامعة الأمريكية ببيروت وإن كان كامل الشناوي يؤكد أنها كانت بالفعل مريضة نفسية.. وعادت إلى مصر لتكتب تجربتها في هذه المستشفى في هذا الكتاب الذي يحمل نفس العنوان «العصفورية» حيث توفت عن 55 عاما بعد أن عانت من انفصام وهزال وانسدل الستار على أيقونة مازالت تعيش في عالم الأدب والثقافة والحب العذري.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار المحلية