بقلم – عبدالعزيز النحاس:
لا شك أن الإعلام، بتوجهاته ومضمونه، يمثل مرآة حقيقية للمجتمع، معبرا عن القيم المجتمعية السائدة، مثلما يشير بقوة إلى مدى ما يملكه المجتمع من مبادئ وقواعد «الدولة المدنية الحديثة»؛ إذ يؤكد الإعلام المعاصر على حتمية رشادة الحكم، ووجوب الشفافية وحرية تداول المعلومات، وصولاً إلى بلوغ آفاق بعيدة من حرية الرأى والتعبير، الأمر الذى يدلل فى النهاية على كون الشعب بالفعل صاحب السلطات جميعا، ومصدر الشرعية الأول.
انطلاقا من تلك الرؤية، يمكن رصد حركة المجتمعات باتجاه أهدافها التنموية وفق محددات «الدولة المدنية الحديثة»، برصد أوضاع الإعلام فيها، وحقيقة ما ينهض به من أدوار فاعلة فى سبيل ترسيخ قيم التعددية السياسية، وتوسيع رقعة المشاركة السياسية.
على ذلك، ومن واقع وضعية الإعلام فى بلدنا، يمكن أن تبنى التجربة الوطنية توجهات جادة وموضوعية نحو بناء «دولة مدنية حديثة»، آخذة فى الاعتبار مجموعة من الملاحظات، نوجزها على النحو التالي:
■ الإعلام الموجه، صاحب الصوت الواحد، فقد مصداقيته تماما كساعد يمكن أن يساهم فى بناء المجتمعات وفق الرؤى المعاصرة. لا ينفى ذلك الإبقاء على قدر من الإعلام التوجيهى، خاصة فى ظل ارتفاع نسبة الأمية فى المجتمع. على أن يقتصر دوره على القضايا غير المرتبطة بمضمون العملية السياسية، محصورا فى برامج التوعية الاجتماعية، بغرض تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة، وتحديث النظرة المجتمعية لكثير من القضايا الداخلية المتعلقة بالعادات والتقاليد التى لم تعد مناسبة للتكيف مع مقتضيات العصر.
■ انطلاقا من تكنولوجيا الاتصال الحديثة، لا شك أن «الإعلام البديل»، ما يبثه الناس بأنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعى من أخبار وصور وآراء، وصولاً إلى ما يسمى «صحافة المواطن»، ما هو إلا صورة جديدة من صور التعددية السياسية التى تتمتع بها «الدولة المدنية الحديثة».
ومن هنا أرجو أن يجد «الإعلام البديل»، المعبر عن المسكوت عنه أحيانا، والكاشف لقضايا تمس المهمشين فى المجتمع، قناعات إيجابية لدى دوائر صناعة واتخاذ القرار فى بلدنا. وهو ما أراه حقيقة فى توجهات مؤسسة الرئاسة إلى التواصل مع رواد الإعلام البديل. وبطبيعة الحال يميل الإعلام البديل إلى كشف الكثير من عورات المجتمع الواجب العناية بها وإضفاء الجدية على معالجتها، لا أن تغفلها الحكومة، وتظل مستترة خلف إعلام رسمى تابع ولا شك، وإعلام خاص مشغول بأهدافه التجارية، التى لا يهدف إليها بطبيعة الحال الإعلام البديل.
ونلاحظ فى هذا الشأن توغلاً محمودا للإعلام البديل بات يقتحم به وسائل الإعلام الخاصة، فتفسح الشاشات مساحات لمقاطع منشورة على مواقع التواصل الاجتماعى، وهو ما يؤكد مصداقية الإعلام البديل فى الشارع. من جانب آخر لا شك أن الإعلام البديل يحظى بقدرة فائقة على فتح آفاق رحبة من الانفتاح على الرأى العام العالمى، فيما يشكل بحق مفهوم العولمة الفكرية التى تجسدها منظومة القيم العالمية التى باتت بحق حاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة.
■ لا بد من الوصول إلى صيغة جديدة تحكم مجال وسائل الإعلام الفضائية الحديثة؛ إذ لا بديل عن الخروج من طوق الملكية الخاصة المهيمنة على توجهات الفضائيات وسُبل نهوضها بدورها التنموى والتنويرى. فلا جدال أن كل الفضائيات تتبع التوجهات السياسية والفكرية لمالكيها، وهو ما يعرض مصداقيتها للضغط المستمر تحت مطرقة مصالحهم وأهدافهم، يأتى ذلك بالقطع على حساب الموضوعية والمهنية الواجبة. من هنا أدعو إلى توسيع قاعدة الملكية فى هذه القنوات شديدة التأثير فى الرأى العام. مع إعلاء دور نقابة الإعلام المزمع إنشاؤها، استنادا إلى ضرورة تجسيد المبادئ الدستورية فى هذا الشأن ضمانا لإعلام مستقل حر قادر على بلوغ أهدافه.
فلو أننا نسعى بجدية صوب بناء «دولة مدنية حديثة»؛ فإن حرية الرأى والتعبير ليست محلاً للجدل، ولا ضابطا لها إلا قيم المجتمع والمصلحة الوطنية، وهو أمر لا يمكن الوثوق فيه فى ظل الملكيات الضيقة لوسائل الإعلام الخاصة كلها، ولا أقول الفضائيات فحسب.
■ الإعلام الحكومى أيضا عليه الخروج من حضانة الدولة، والأخذ بآليات اقتصاد السوق، لتتخفف ميزانية الدولة من عبء استنفاد مؤسساتها الإعلامية الخاسرة على وجه العموم، صحافة وتليفزيون وإذاعة على السواء. وهو أمر طال انتظاره، حتى فاض الكيل بميزانية الدولة، وفقد الإعلام الرسمى كثيرا من مصداقيته، وبات يعيش على تاريخه الريادى دون الأخذ بأسباب التطور، وأساليب الإدارة الحديثة. من هنا أُشير إلى أن تبعية الإعلام الحكومى، فى «الدولة المدنية الحديثة»، إنما تكون للدولة وليس للنظام الحاكم؛ ذلك أن نظاما حاكما جاء إلى الحكم بشعبية طاغية، مدفوعا بمسئوليات وطنية ضخمة أُلقيت على عاتقه فى فترة حرجة من عمر الوطن، لا يمكن أن ينتظر مساندة إعلامية ساذجة تحجب عنه توجهاته الديمقراطية، وتلحقه بسابقيه من النظم التى أسقطتها الثورة المصرية، يناير/يونيو على السواء.
وريئس يؤكد دائما أن الوطن تغير ولم يعد الحاكم فيه يستطيع البقاء يوما واحدا دون رغبة الشعب، لا يمكن أن يستند إلى إعلام حكومى لم يستوعب بعد فكرة خروجه عن الطوق الحكومى ليشق لنفسه طريقاً آمناً من المصداقية، مالكا لأدوات بقائه اقتصاديا ومهنيا ولعل التجربة الوطنية فى هذا الشأن تنتظر اختمارا لما نالته من دروس قريبة.
فلست أرى إلا أن النظام الحاكم بالفعل قد شق الطوق عن إعلامه الرسمى، إلا أن الأخير يأبى إلا أن يظل أسيرا لنهج فكرى أسقطته الثورة المصرية حين أعلت من قيم «الدولة المدنية الحديثة» بشعاراتها الساطعة فى يناير ويونيو على التوالى.
■ ليس فيما سبق مدعاة إلى مواصلة التزيد والمبالغات التى يحرص عليها البعض من الإعلاميين الجدد الذين نصبوا أنفسهم زعامات سياسية مسائية، تمارس دورها كل ليلة فى مزايدات، وتسوية حسابات، حتى تحولت الشاشات إلى أحزاب سياسية فضائية تشتعل بقضايا أجدر بها أن تشكل هموما تنهض بها أروقة الأحزاب السياسية، على أن تبقى الشاشات للرأى والرأى الآخر، بموضوعية ومهنية، ودون استعلاء على المشاهد المتلقى لكل هذا الكم المنهمر من الغوغائية الإعلامية. ولا شك أن أمرا على هذا النحو يرتبط بما أشرنا إليه من ضرورة إيجاد صيغ جديدة لتوسيع ملكية وسائل الإعلام بغرض الفصل بين الملكية والإدارة فصلاً حقيقيا وليس شكليا كما نراه الآن، وبذلك تنضبط سياسات الإعلامى باتجاه مسئولياته الوطنية ومحدداتها المهنية المتعارف عليها.
■ يبقى أن تثق الدولة، أكثر من ذلك، فى أن المسئولية الوطنية مشتركة بين وسائل الإعلام جميعا، الحكومية والخاصة على السواء؛ ومن ثم لا أفهم استئثار رؤساء تحرير الصحف القومية بلقاءات منفردة مع الرئيس السيسى. صحيح أن لقاءات أخرى تجمع الرئيس برؤساء تحرير الصحف الخاصة والمستقلة، لكن التفرقة تبدو لى غير مفهومة، ما دام أننا جميعا نواجه التحديات ذاتها، ونستهدف المصلحة الوطنية دون سواها. علينا أن نلقى بوسائلنا الإعلامية الحكومية إلى خضم السوق الإعلامى، بآلياته ومقتضياته، دون ركون إلى رعاية الدولة.
شغلتنا متابعة الحديث عن الإعلام، موقعه ودوره فى بناء «الدولة المدينة الحديثة»، عن قراء موضوعية للمشهد الأمريكى تواكب ما يقدمه من نموذج رائع فى كيفية تداول السلطة فى «الدولة المدنية الحديثة»، وإن كانت التجربة الأمريكية الأخيرة تشير إلى تراجع تأثير الإعلام الأمريكي؛ إذ كان فى أغلبه مائلاً نحو هيلارى كلينتون، فإذا بترامب يتفوق، ولو قليلاً، لكن الأمر لا شك يرتبط بطردية تأثير الإعلام ومستوى الثقافة المجتمعية، وعمق ورسوخ القناعات الديمقراطية. ومن هنا تبدو أهمية الإعلام أشد وأبلغ أثرا فى المجتمعات الناشئة ديمقراطيا. فإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.