كان آخر لقاء لى مع المفكر والناقد الأدبى الكبير «عبدالمنعم تليمة» منذ ٣ سنوات، ربما أكثر، قال لى بعد أن طالع كتاباتى المنشورة بجريدة الأهالى: أسلوبك رصين، ذو عمق، رشيق، ممتع، يستحق أن ينشر فى مجلة أدبية متخصِّصَة.
شكوت له انهزاماتى المتكررة وأحلامى المتكسرة، وسألته: من أين أبدأ؟! وهل أكُفْ عن الكتابة لحين اكتمال معرفتى؟! فرد: اقرئى فى البداية كتابين مهمين؛ «التعادلية» و«فن الأدب» لتوفيق الحكيم، واكتبى واقرئى فى آن واحد، ولا تصدقى أن أحلامك لم تتحقق، بل هى لم تتحقق بعد.
حكى لى عن تجربته الثرية مع التليفزيون التركى، الذى يتكفل بكامل مصاريف سفره من وقت لآخر، ويزن ثمن كل «دقيقة» يمنحها له «تليمة» فى حديثه عن مختلف القضايا الفكرية والأدبية ذات الشأن، ليضيء دهاليز عقلى بقيمة الوقت، معنى العمر، جدوى الوجود؟! لكننى لم أستوعب الرسالة!
منحنى فى نهاية اللقاء نصًا نثريًا فريدًا، يتحدث فيه عن نفسه، بُهِت لفرط عمقه ونبله وصدقه، وهو من أبْلَغ وأعذب وأنقى ما قرأت، وللأسف ضاع وسط أكوام أوراقى المتناثرة.
أمهلنى ثلاثة أسابيع لقراءة الكتاب الأول، ليناقشنى فيه، ثم أبدأ فى قراءة الثانى، وأناقشه، ثم يقترح كتبًا أخرى، لأقرأها، وأناقشها، وبحثت عن الكتابين فى كل مكتبات القاهرة، ولم أجدهما، لكننى عثرت عليهما بمعجزة فى سوق الكتب القديمة بمنطقة «السيدة زينب»، ثم بدأت فى قراءة الكتاب الأول «التعادلية»، لأكتشف أن كل «عبارة « فيه هى سر من أسرار الكون والأدب والفن والحياة.
التحقت بعد فترة بمجلة «روزاليوسف»، وانشغلت بدراستى التى أحبها فى برنامج «الترجمة» بقسم «اللغة الإنجليزية» بآداب جامعة القاهرة، وإعدادى وتقديمى برنامجى «اللى جاى أحلى» على راديو «عيش حياتك»، ثم سلسلة مقالاتى الأسبوعية التى أعتز بها فى ركنى الأجمل بمجلة «البوابة»، ثم مؤخرًا «الجريدة».
هاتفنى بعد عام من اللقاء؛ لتهنئتى بعيد ميلادى، وحتى الآن أدْهَشُ كيف عرف يوم ميلادى؟! ثم ذكرنى بموعد مناقشة الكتاب، لكننى لم ألتزم بالميعاد! فدعانى فى مهاتفة ثانية إلى حضور ندوة له فى «أتيليه القاهرة» بوسط البلد، وذكرنى بموعد المناقشة، فحضرت الندوة التى ألقى فيها الشاعر «أمين حداد» بعض أشعاره الثورية، بمصاحبة غناء شباب مدهش، لكننى لم ألتزم بميعاد المناقشة! فدعانى فى مهاتفة ثالثة لحضور ندوة له، يتحدث فيها عن «ثورة ٢٥ يناير» فى عيون العالم، بدار النشر «ميريت» فى شارع قصر النيل، وذكرنى بموعد المناقشة، فحضرت الندوة، لكننى لم ألتزم كعادتى بميعاد المناقشة! فتوقف «تليمة» تمامًا عن التهنئة والدعوة والكلام والسؤال.
رافقنى كتاب «التعادلية» فى كل مكان، لأغيب فترات طويلة، ثم أعاود الاتصال به؛ لأحدد موعدًا جديدًا للمناقشة، وهو يبتسم ويُقدِّر ويشجع، وفى كل مرة لا ألتزم بالميعاد! لكن صوته فى مكالمتى الأخيرة له منذ أشهر قليلة، بدى لأول مرة محبطًا ومعاتبًا وغاضبًا، فشعرت أننى خذلته بقسوة، وأننى لم أعد تلميذته النجيبة، فحزنت وتألمت بشدة، وقررت ألا أتصل به، إلا بعد أن أفرغ تمامًا من قراءة الكتاب، وأستعد للمناقشة.
واظبت على حضور صالونه الفكرى والأدبى والفنى الأسبوعى كل «خميس» فى الساعة الخامسة، لمناقشة قضايا ثقافية متعددة، وتحليل ونقد أعمال إبداعية متنوعة؛ شعر، رواية، قصة، مسرحية، فيلم، لوحة، مقطوعة موسيقية، فى حضور العديد من المثقفين والنقاد والأدباء الكبار والفنانين والمبدعين الشباب.
تخلل الحوارات فقرات غناء شرقى، لمطرب شاب، واعد، يعزف على «العود»، لا أتذكر اسمه، لكننى أذكر صوته البديع، وقد شاركته الغناء ذات مرة فى «ديالوج غنائى» شهير، هو «يا دى النعيم»، الذى أداه «محمد عبدالوهاب» مع «ليلى مراد» فى فيلم «يحيا الحب».
أذكر جدوله اليومى الزاخر بدراساته ومحاضراته وتلاميذه، الذى يختتمه كل يوم، قبل أن يغمض عينيه مستغرقًا فى النوم الساعة الحادية عشر مساءً، بضحكة صارخة السحر والأنوثة، يعشقها، لممثلة أمريكية شهيرة، لا أتذكر اسمها، لكن يبهرنى ويحيرنى دومًا عطر ذِكْرِها.
توقف عقد «الصالون» بعد ثورة يناير ٢٠١١، لكن لم يتوقف إيمان «تليمة» وثقته، بأن النصر قادم لا محالة، وأن شعب مصر قادر على هزيمة الماضى، وصنع المستقبل الباهر، رغم محاصرة الفقر والمرض والجهل، وملاحقة مشاعر الخوف واليأس والانكسار.
افتقدت ذاك اليوم الزاهر، الذى كان يمنحنى الهواء المنعش والنقى، الذى كنت دومًا أبحث عنه، ولا أجده، لكنه ما زال يحرضنى بقوة على مواصلة الكتابة والقراءة، والتوغل فى شرايين الفكر والمعرفة، وعشق التأمل واحتساء القهوة.
رحل «تليمة» قبل اللقاء المهم، الذى لم يتم، لكنه لم يمت، بل كسب الحياة فى المكان الأروع، وبقيت أنا، لكننى لم أفز، بل أحرزت الخسارة الأفدح! كنت أستعد بضراوة لأنتزع منه أعلى تقدير، فاقتلع هو منى عن جدارة أغلى مكانة! أعترف بصدمتى الكبيرة، وخسارتى العظيمة، ومسئوليتى الفادحة عن ضياع هذا اللقاء، لكننى تعلمت ألا أخسر أبدًا، بعد أن استوعبت الدرس الأخطر، وما زلت أستكمل مطالعة هذا الكتاب الفارق من وقت لآخر، وسط مشاغلى المتراكمة، وأتوقف أمام النور الساطع، الذى يشع من كل نقطة وحرف وكلمة وعبارة، وأكتب ملاحظاتى بعناية ودقة. ظل «تليمة» فارسًا نبيلًا، يعمل ويفكر ويبدع حتى آخر يوم فى حياته، حتى غابت إشراقته عن الدنيا الإثنين قبل الماضى، عن عمر يناهز ثمانين عاما، لكن ظل صوته الهادئ وفكره الناصع ورؤيته النافذة فى ذاكرة كل تلاميذه وزملائه وأحبائه.