«من سبق له الإحساس باليأس المطلق، هو الوحيد القادر على الإحساس بالسعادة المطلقة»، «من الضرورى أن تكون قد تمنيت الموت لكى تعرف قيمة الحياة»، «النوم على الأرض له ميزة واحدة، أنه يشجع على الاستيقاظ المبكر»، «الحب الحقيقى دائمًا ما يخلق رجلًا أفضل، بصرف النظر عن المرأة التى يحبها»، «نادرًا ما يرى المرء فى الصبى بشائر رجل، لكن المرء يكاد يرى دومًا فى الفتاة نُذُر امرأة»، «لا تعتب على من يُكْثِر الكلام عن نفسه، إنه غالبًا لا يجيد التحدث فى موضوع آخر»، «كيف يكون الأطفال فى غاية الذكاء، والرجال فى غاية الغباء؟! لا بد أن السبب هو التعليم»، «لا شىء ينجح مثل النجاح!».
تلك بعض العبارات الشهيرة للكاتب الفرنسى الراحل «ألكسندر دوما» الأب (١٨٠٢ ١٨٧٠)، الذى ترجمت كل رواياته التاريخية والرومانسية وذات حس المغامرة العالى إلى ١٠٠ لغة تقريبًا، ليكون أحد أكثر الكُتَّاب الفرنسيين شهرة على نطاق واسع من العالم.
نُشِرت العديد من رواياته فى سلاسل أدبية لامعة بعد ٢٠ عامًا؛ منها «الكونت دى مونت كريستو»، «الفرسان الثلاثة»، ومُثِّلَت فيما يقرب من ٢٠٠ فيلم منذ أوائل القرن ٢٠، أما روايته الأخيرة «فارس سانت هيرمين» التى لم ينهها قبل وفاته، فقد استكملها أحد الباحثون، ونُشِرت باللغة الإنجليزية عام ٢٠٠٨، لتُصبح من أكثر الروايات مبيعًا.
بدأ «دوما» حياته الأدبية الغزيرة بكتابة المسرحيات، التى أُنتجت بنجاح، والعديد من المقالات وكُتب الرحلات، حتى بلغت أعماله المنشورة حوالى ١٠٠،٠٠٠ صفحة، وهو من شَيَّد مسرح «التاريخ» فى باريس عام ١٨٤٤ فى «بورت مارلى»، وكتب فيه أشهر أعماله، ثم تَحَوَّل إلى متحف أثرى عام ١٩٩٤.
سجَّى جثمانه فى «البانثيون» بباريس، بجانب العظماء من الرجال والنساء فى ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٢، ورغم رغبته فى أن يدفن مع والديه، إلا أن بلدته الأصلية «ڤييه كوتيريت» اضطرت للموافقة على نقل رفاته إلى العاصمة.
رافق جثمانه إلى مثواه الأخير ١٠٠ ممثل وممثلة، يرتدون ملابس شخصيات رواياته المثيرة، ولُفَّ كفنه بقماش مخملى أزرق، كتب عليه شعار روايته الشهيرة «الفرسان الثلاثة»: «الكل للواحد، والواحد للكل!»
تعد تلك الرواية التى نشرت لأول مرة عام ١٨٤٤ من أشهر الروايات الفرنسية والعالمية، وهى تحكى مغامرات الشاب «دارتانيان»، الذى يترك بيته، على أمل أن يصبح فارسًا مغامرًا، وخلافًا لما يوحى به العنوان، فهو ليس أحد الفرسان الثلاثة، بل هم أصدقاؤه المتلازمون، الذين يعيشون وفق هذه «العقيدة».
ظلت تلك «العبارة الخطيرة» أو فكرة «الفريق الواحِد» أو تَوَحُّد «الخير» فى مواجهة «الشر»، هى الروح الاجتماعية النافذة والساحقة، الذى يشكل تآلفها سدًا منيعًا يقف إزاء كل الحوادث، فيقطع عليها السبيل، ويضعف قوتها أمام تحدى الأقدار الملتوية لعالم المغامرين، المُتيَّم به الكاتب دومًا.
كان ذلك «المقدس الخالد» هو «الباب المفتوح» أو حُلم اليقظة العجيب، الذى دخل منه «مصطفى أفندى سعفان» بعد مضى حوالى ٤٠ عامًا على وفاته – مدرس التاريخ بمدرسة الخديوية الثانوية إلى غرفة تلميذه النجيب «أبى العلا البشرى»، وهو فى غمرة ألمه ويأسه وانكساره أثناء مقاومته صفعات الحياة المتعاقبة، وهو المشهد قبل الأخير فى المسلسل العبقرى «رحلة أبى العلا البشرى»، للكاتب المبدع «أسامة أنور عكاشة»، والمخرج المتميز «محمد فاضل».
يدخل «المُدرِّس» بوجهه المستبشر ضاحكًا، فيقول «أبو العلا» متهكمًا: اضحك كما تشاء، فلن يسمعك أحد! على أية حال قد انتهت الحكاية! فيرد: لا، الحكاية لم تنتهِ، كتاب «دونكى شوت» يقول هذا! فأنت لم تخطئ بعد، لكنك قد تفعل، فندمك خطأ، وإحساسك بالذنب خطأ!
يستطرد: آخر مرة رأيتك فيها، كنت مسجونا فى عز النكبة، قلت لك: أنت على صواب، رغم كل ما تسببت فيه، وهو ثمن بسيط فى مقابل محاولة نبيلة، فكل ما حدث لك، أو بسببك، هو قدَر كل أصحاب الرسالات، لقد رفضت النوم، الكسل، الراحة، ونهضت؛ لتقاوم قوى الشر فى عز جبروتها وتوحشها!
يستكمل: جئتك الآن؛ لأمنعك من اليأس، والتخلى عن سلاحك؛ ولأطلب منك أن تواصل طريقك، وتُكمِل رسالتك، وإياك أن تعتقد للحظة واحدة أنك فشلت، فالعكس تمامًا هو الصحيح، لقد نجحت بالفعل فى تغيير كل من حولك! ربما أضعت فى المقابل عشرات آخرين، لكنها لم تكن غلطتك أبدًا، تلك هى قوى الشر الطاغية، المتمكنة فى نفوس البشر، التى حاولت دومًا أن تهزمك، وتبعدك عن طريقك!
يضيف: استطاعت أخيرًا تلك القوى أن تخترقك من نقطة ضعف وحيدة، لم تنتبه لها أبدًا! وهى غفلتك عن حقيقة مهمة: أن هذا الزمان ليس زمن الفارس الوحيد، الذى يطيح بسيفه ورمحه قوى الشر الطاغية من أجل «ست الحسن»؛ لأنه لا بد أن يتحد كل فرسان الخيل يدًا واحدةً، تلك هى «كلمة السر» أو «الشعار القديم»، الذى جسده «ألكسندر دوما» فى روايته «الفرسان الثلاثة»، وجعله قانونًا للحياة: «الكل للواحد، والواحد للكل»، هل تذكره؟!
فى النهاية يُنْهِى «الأستاذ» حواره: كنت أول شخص يمنحك كتابا تقرؤه، فيرد «البشرى» غاضبًا: مع ذلك نسيتك، ولم أعرفك! فيجيب: لم تنسنى، ولم تتركنى أبدًا! فيتأمله «أبوالعلا» فى دهشة: لكن حضرتك لم تَكبُر أبدًا، فيرد: لن أكبُر أبدًا فى عينيك، بل أكبُر فقط فى عقلك، ثم يصيح فى وجهه: خُذْ كُتبَك المُلْقاه على الأرض يا ولد!