فى الأجواء الملبدة تظهر الوجوه العكرة. صحفى مصرى على فضائية أوروبية وصف قطر بأنها تتصرف دون وعى، بينما ألمح آخر على فضائية ثانية إلى تخوفه من أثر قرارات المقاطعة على المصريين فى الدوحة.
فى جريدة مصرية يومية مستقلة كبرى، كتب اسم كبير، فى عمود كبير، فى الجرنال الكبير عن المشقة التى سيواجهها المصريون هناك، بعد تعليق رحلات الطيران من وإلى الدوحة.
كلهم خرّاصون لمّازون. أغلبهم همّاز بنميم، عُتل بعد ذلك زنيم. قُتل الخرّاصون.
نفس «السّحن» الصفراوية تظهر فى الأزمات، تتكلم كلامًا ملفوفًا، وراءه نيات ليست خالصة لوجه الله. كلامهم سم، وتلميحاتهم سم. لكن كان زمان. زمان كان ممكن لتلك الآراء إثارة البلبلة فى الشارع. كان ممكنًا أن تصيب الأذهان والأنفس بالقيل والقال. زمان كان الشارع يصدق وجوهًا كثيرة كانت ترتدى ثوب البطولة والحكمة والوطنية، فتصدر للناس كلامًا ملتويًا، تضع السم فى العسل، والشارع يشرب، ويتجشأ ويهضم أفخاخًا فى مقالات الجرائد الكبرى، وعلى مواقع التواصل الاجتماعى. لكن النهاردة الوعى أكبر، ورؤية الشارع أوسع.. احتمالات هضم كلام غير خالص النية لم تعد كبيرة. على الفضائية الأوروبية، أراد الصحفى إياه تبرئة قطر من العمد وسبق الإصرار والترصد والتلبس بالإرهاب. معنى أن الدوحة لا تدرى ما الذى تفعله، إن الدوحة فى حاجة إلى رعاية لا عقاب. يقول على المتغطى إن المقاطعة قرار ليس فى محله، وإن التسرع فى التعامل العربى ـ العربى ليس إلا بداية لتقلبات جديدة فى المنطقة، لا نحن حملها، ولا نحن «قدّها».
هذا الكلام ليس صحيحًا. فلا قرار المقاطعة تسرّعًا، ولا أزمة التنقل الجوى للمصريين من قطر للقاهرة هى البند الأهم. لا قطر بريئة، ولا الدوحة لا تعرف ما الذى تفعله. لا مصر تسرعت، ولا انساقت وراء دول الخليج، كما غرد «مناضل معروف» على تويتر الأسبوع الماضى.
قطر متهمة منذ سنوات. قطر فى خطر، منذ أن دعت المناضلين الثوريين المصريين، إلى شاشاتها فهاجموا الدولة، وهاجموا المجلس العسكرى، وهاجموا المؤسسات المصرية، وسموا حرق المنشآت المصرية تغييرًا.. ثم دعوا للإخوان. قطر فى خطر بعدما تيقن الجميع أنها خطر على الجميع. على نفسها جنت براقش. الدوحة يداها ورجلاها فى الوحل، منذ أن فتحت مجالها ودواوينها، لرؤوس جماعة الإخوان، فخرجوا من رابعة على فيلل الدوحة، وفضائيات الدوحة يتكلمون عن شرعية محمد مرسى.
الأزمة هذه المرة ليست كالمرات السابقة. الأدلة التى قدمتها القاهرة فاقت توقعات الخليج وتصوراته. مصادر سعودية تكلمت عن يقين بتورط الدوحة فى تمويل محاولة اغتيال بعض أعضاء الأسرة المالكة السعودية. دلائل أخرى أكدت تمويل الدوحة لحزب الله ومنظمات أخرى مهمتها الإرهاب فى ليبيا ولبنان وسوريا. واضح الآن مدى محاولة قطر «التهويل» من حيثيتها فى المنطقة، وضلوعها فى تأليب الرأى العام فى مصر، والسعودية والإمارات على حكامهم وأنظمة الحكم فى بلادهم. قطر فى خطر الآن، لأنها هى التى ليست حمل الهبة العربية. وهن قطر لا تدركه قطر. فعلت الدوحة كما فعل القط فى نكتة معروفة، أقنع نفسه أنه أسد أسد أسد، حتى دخل عمدًا كهف يسكنه الأسود. فى موقف كهذا لا بد أن توقن أن تصوراتك عن نفسك، قد تختلف عن الواقع، وعن الصورة فى أذهان الآخرين.
المقاطعة العربية كما يبدو تسير فى اتجاهات تصعيدية، لكن الملاحظة الأهم تظل فى كيفية تلقى «بقايا النخبة» تبعنا تداعيات المقاطعة. لم تكشف الإجراءات الأخيرة قطر، قطر مكشوفة منذ سنوات. لكن الذى كشفته المقاطعة، هو بقايا «نُخب» مصرية على ما تفرج.
أستاذ علوم سياسية مصرى شاب، وصف سياسة قطر تجاه الدول العربية بـ «غير المتوازنة» على فضائية «بى بى سى» قبل يومين. لا يمكن تصور أن أستاذًا للعلوم السياسية بجامعة القاهرة، لا يعرف الفرق للآن، بين التحريض على الإرهاب، وبين السياسات «غير المتوازنة» للدول.
لو كانت الدوحة واحدة من الأزمات الإقليمية منذ سنوات، فنخبة «دهن الثعبان» هم أكبر مشاكلنا الداخلية منذ عقود.