كنت جالسا فى مقهى نصف شعبي، منغمسا فى دور شطرنج، وكان القائل ومعه مجموعة من أصدقائه يعلقون على حديث أحد الإرهابيين الليبى عبد الرحيم المسمارى مع الاستاذ عماد الدين أديب الذى أذاعته فضائية الحياة قبل أيام.
وكان الأستاذ عماد قد انفرد بالحوار مع الإرهابى الذى ألقت قوات الأمن القبض عليه، فى عملية واسعة لتطهير الواحات من الإرهابيين، وسأله : ألا تشعر بتأنيب الضمير ولو لحظة وأنت قتلت واحدا من بلدك ودينك؟
ورد المسمارى كأنه إنسان آلى يسترجع ما حفظ من تعليمات: هذا قتل عقائدي.. والرسول قتل أعمامه.
وورد الأستاذ عماد عفو الخاطر مستنكرا: كانوا كفارا يا رجل!
كما لو أن «الكفر رخصة للقتل والكفر قد يمتد فى معناه ويشمل المخالفين فى الدين.
تركت اللعب ونظرت إلى القائل بتمعن، وكنت أعرفه.. رأيته كثيرا من قبل فى المكان، يهزر ويسخر ويشرب الشيشة، ويخرج إلى المسجد القريب حين يؤذن لصلاة العشاء، وكان جادا فى عبارته التى بدت دفاعا عن القتل.
قلت له: لا.. لم يقاتل الرسول أعمامه لأنهم كفار، قاتلهم لأنهم ناصبوه العداء أولا، وحاربوه فعليا وتآمروا عليه بالقتل، ولا يوجد فى السيرة النبوية ما يشير بأى إشارة لو باطنية إلى وجوب قتل الكافر، أو المخالف فى الدين، بدليل أن الرسول لم يأمر بقتل أى أسير من أهل قريش ممن سقطوا فى قبضة المسلمين فى غزوة بدر..كانوا سبعين كافرا ولم يسفك نقطة دم واحدة من أى منهم..ولو كان قتلهم من «الدين» ما أفرج عنهم مقابل فدية تفاوت مقدارها حسب القدرة المالية لكل أسير، أو تعليم المسلمين القراءة والكتابة من غير القادرين.
سألنى بجدية: ألا يعد المسمارى مجاهدا؟
قلت: تصنيف البشر دينيا وتقدير أعمالهم الإيمانية من حق الله فقط، ولا يحق لبشرى أن يحكم على «درجة» إيمان غيره..هذا النوع من الأحكام هو اغتصاب لسلطة الله.. وكيف لنا أن نصف قاتلا لأبرياء بأنه مجاهد، إنه لم يقتل أعداء فى ساحة الحرب دفاعا عن مبدأ أو وطن أو شرف أو مال أو نفس أو عدوان عليه.
لم يعجبه ردي، وترك المكان ممتعضا، لكن عبارته لم تغادرني، ليس كلماته فى حد ذاتها التى شغلتني، هى مجرد بوابة إلى دهاليز العقل المشغول بهذا النوع من التفكير، ياترى من الذى بث فيه هذه الأفكار عن الحرب والجهاد وقتال النبى لأعمامه ؟، من قال له إن قتل الكافر أو المخالف فى الدين جهاد، وإذا مات فهو شهيد؟، إيهما أكثر ظلما للدين الحنيف: الذين ينشرون هذه الأفكار أم الذين يتعصبون ضده ويشنعون عليه من الكارهين له ؟
إذن الأزمة ليست فى «الإرهابي» أو المتطرف أو المتشدد أو المستمع محدود المعرفة بدينه، أو المتلقى ذى الوجدان الحائر والمتردد والمرتبك، إنما فى صانع عقل الإرهابي، فى ذاك الداعية أو المدعى الذى دس السم فى خلاياه، فاستبدل بصحيحها الإنسانى المتسامح الاجتماعي، خلايا فاسدة متعنتة كارهة منعزلة عن الآخر، متنمرة لقتله، والآخر لا يقتصر فقط على المخالفين فى دينه، ولكن المخالفين لأفكاره ويراهم خطرا أو حائط صد مانعا لذيوعها بين الناس.
والتعامل مع الإرهابيين فى ميدان المطاردة والعنف المضاد هو الأخف والمسئولية الأسهل، فالعدو واضح والأسلحة متاحة وأدوات الملاحقة يمكن أن تتوسع، والدوافع القانونية لحماية المجتمع متوافرة، لكن الأفكار التى يقف على أرضها كل الإرهابيين أصعب ومسئوليتها أفدح وأشد قسوة، لأنهم تمتلكهم ملكية مطلقة، وتحولهم إلى قنابل موقوتة وعبوات ناسفة وكتائب مسلحة وطابور خامس، اى يصبحون عدوا فى غاية الشراسة، عدوا ساكنا تحت جلدنا، والأخطر هو الطابور الخامس الذى لم يهاجر إلى الصحراء والمغارات مقاتلا واضحا، فالطابور الخامس يحتمى فى حصن ديننا، وأسلحتنا متراخية لا تجرؤ على التصويب عليه، لنتجنب التشهير بِنَا متهمين بمحاربة الإسلام، والدوافع القانونية غائبة، ورجال الدين معتدلين ومتطرفين يمدونه عمدا أو دون قصد بمدد وزاد لا ينقطع، فهم أيضا يتمسكون بقدر غير قليل من تلك الأفكار المتشددة ويعلنونها بألفاظ معتدلة أو بعبارات تلبس قناعا يبدو طيبا..
هو ضحية من زرع أفكار قادته إلى هذه العبارة الشاذة، عبارة لا تفرق بين الصواب والخطأ، وترى الأشياء من منظور حلال وحرام يحددها له شيخ ومفتٍى وداعية، ويتصور أن القتل غيلا يمكن أن يكون دفاعا عن الدين.
ويمكن أن ننجح فى تطهير بلادنا من الإرهابيين، فالحرب أى حرب لها نهاية مهما طالت مثل أى فعل مادي، فالمادة تنفذُ أى تُستهلك وتُفني، لكن الفكرة حالة معنوية ممتدة ممكن أن تخبو وتتوارى وتنزوي، لكنها لا تفنى فناء نهائيا، الإرهاب كائن متوحش، لكن الفكرة بريق متوحش، وقتل الوحش أو اعتقاله لا يعنى التخلص من الفكرة البريق، وهذا يفسر لنا كيف لرجل ولد فى ليبيا وجاء إلى أرض مصر إرهابيا يقتل بعض أهلها، فشيوخه فككوا عقله وأعادوا تركيبه على هواهم، وقطعا لا ننكر العناصر المساعدة من بيئة وحالة نفسية وتجارب خاصة وثقافة.
إذن حربنا فقط على الإرهاب المسلح لن تصل بِنَا إلى النتيجة التى نريدها، لأننا لم نتحصن ضد «فيروس» أفكاره فحسب، وإنما نوفر لها بيئة تعايش وتكُّيف جيدة من تعليم عام سيئ وإعلام سيئ ومناهج دينية سيئة ورجال دين من مصلحتهم أن تظل أفكار التطرّف ترعوى وتتنفس، ليظل وجودهم «على المسرح القومي» ذَا قيمة وضرورة.
عبارة هذا الشاب كارثة.. فهو دائما يسمع كلاما وفتوى دينية من المشايخ عن الآخرين تبيح دماءهم وأموالهم وأعراضهم، كما لو أن هؤلاء المشايخ يتحدثون عن دين قراصنة أو عصابات مسلحة أو غزاة متوحشين، وليس دينا إنسانيا متسامحا منزّها عن سفك الدماء والكراهية داعيا إلى حرية العقيدة والعدل والحقوق المتساوية.
باختصار أن إصلاح أفكار الدعاة والشيوخ ورجال الدين له الأولوية قبل أن يقفوا أمام الناس معلمين وناصحين ومفتين ومرشدين لهم.