بقلم – محمد العسيري
سرح الرجل السبعينى ومال بجذعه للوراء وكأنه يتحسر على سنين عمره اللى راحت، ثم أضاف وهو ينظر بغيظ إلى لاعبينا الذين تساقطوا مثل الفراخ «اللى جاتلها الفرة» فى أوليمبياد البرازيل.. قال الرجل الذى جاء من قلب الصعيد من سنوات طويلة وأمضى وقتا طويلا فى الجو- كان يعمل طيارا: «كان عندنا فى أسيوط مكان واسع جدا أكتر من فدانين.. وكان فيه مدربين لكل حاجة.. الزانة – الرماية – السباحة – الجرى – المصارعة – كان اسمه القسم المخصوص.. وكان العيال من كل حتة.. من الأرياف ومن المدينة.. تروح السباحة فما تعرفش تعوم.. يفضل المدرب وراك شوية.. ولما يفلس منا يوديك لعبة تانية وتالتة لحد ما يشوفك موهوب فى إيه ويبقى دى اللعبة اللى تكمل فيها.. الله يرحمك يا جمال عبدالناصر».
لم أشأ أن أخبره أن عبدالناصر لم يخترع «القسم المخصوص» لكننى قفزت أسأله: طب إنت سمعت عن القسم المخصوص اللى موجود دلوقتى فى كليات الطب. فسألنى: أنهى كليات بتاع الحكومة ولا القطاع الخاص؟.. قلت بمرارة: «بتاع الحكومة». فأبدى سيادة العميد المتقاعد دهشته: لا ماسمعتش.. هوه حصل إيه؟.
وما حدث يا سادة عرفته من صديق طبيب من أنجب أبناء قصر العينى.. أيوه قصر العينى بتاع الغلابة. السادة المسئولون عن التعليم فى بلادنا- وطبعا حاله انتو عارفينه منيل إزاى- وصلت العبقرية بهم إلى حد ضرب الدستور بالجزمة القديمة.. أيوه الصرمة القديمة، الدستور اللى بينص على عدم التمييز بين المواطنين لأى سبب دينى أو عرقى أو جهوى.. البهوات خلوه كيس جوافة وميزوا بين أبناء الوطن الواحد المتساوين فى الدين واللغة والجنسية المصرية طبعا لمجرد أن أحدهم يملك مالا والآخر لا يملك.
وعشان ما تزهقوش منى.. الموضوع باختصار إن السادة فى كلية الطب عملوا نظامين واحد مخصوص والتانى شعبى.. ابنك يذاكر وياخد دروس بالآلاف ويجيب المجموع اللى يدخله طب وفى الآخر أول ما يخطى عتبة الكلية يلاقى اللى بيسأله «عادة ولا مخصوص»، ولما يسأل يعرف إنه إذا أراد أن يتعلم الطب مخصوص عليه أن يدفع ٥٠ ألف جنيه فى السنة.. اسمها «كريديت».. ولو مش معاه يبقى «بيئة» مش لازم يتعلم مع أولاد الأغنيا.
وأكيد حلق أمه ولا جاموستها مش هيجيبوا تمن ساعات «الكريديت»، وعليه أن يعرف إنه لو كان مجدى يعقوب ذات نفسه ومش معاه الخمسين ألف جنيه كل سنة يروح يتزرع مع اللى زيه من أولاد الناس الغلابة فى مدرج الغلابة، ويطلع بعد سبع سنين «طبيب مش مخصوص».. طب بذمتكم انتوا مستنين منه إنه يطلع دكتور أصلا ولا إرهابى، مين اللى سمح بتحويل التعليم فى بلادنا ليكون أداة تفرقة عنصرية بدلا من كونه ساحة للتوافق.. من الذى أفتى السادة مسئولى الجامعات أنهم بهذه الطريقة سيجمعون أموالا لتنمية موارد جامعاتهم؟، هذه الجامعات سيتخرج منها مرضى نفسيون سنصرف عليهم المليارات لعلاجهم من آثار هذه التفرقة البغيضة.
أفهم أن «كشوف الهيئة» التى يستخدمها سادتنا منذ سنوات لرفض أبناء الفقراء وحرمانهم من أى صعود لسلم اجتماعى صارت دستورا فى حد ذاتها.
وارتضينا ذلك فيما وجد أصحاب الأموال سككا لاختراق هذه الكشوف من تحت الترابيزة، لكن أن يصل الأمر إلى كليات الحكومة الملاذ الأخير لفقراء بلادنا فهذا هو «الصهد» الذى سيصهر المرار والاحتقان فى نفوس أفضل أبنائنا.
وسامح الله جمال عبدالناصر وطه حسين ومن على شاكلتهما ممن أوهمونا أن التعليم حق دستورى للجميع وما حدش يطلع يقولى ما هو كده لحد الجامعة، وأن هذا النظام- الكريديت- اختيارى.. لأن ما لا أستطيع دخوله لعسر مالى هو منتهى الإجبار والإذلال.
هذه بوابة الجحيم.. أنتم تفتحونها على مصراعيها مع جيل لا ينسى.. ولن يرحم.. أفيقوا وأوقفوا هذه المهزلة فى جامعات مصر.. المشرحة مش ناقصة!