قبل أن تقرأ: هذا البلد الذي شّبَ على أطراف أصابعه، ونفرت عروقه، ووقف شعر رأسه، قلقا وخوفا مع انتشار الأخبار الأولى عن احتجاز قوات الدعم السريع السودانية لجنودنا في قاعدة مروي، وكاد ينفجر من شدة الغضب.. وربما الشعور بالإهانة، من حقه ألا يعيش هذه اللحظة مرة أخري. ليس في كل مرة تسلم الجرة .
عند تأميم عبد الناصر لقناة السويس عام 56 وقفت الشعوب العربية – ومصر في قلبها باليقين- على أعصابها، فها هي دولة صغيرة العدد والامكانيات – كبيرة التاريخ والتأثير – تواجه عدوانا ثلاثيا من أعتى دول العالم استعمارا، وأكبرها جيوشا وأعظمها تسليحا.. وخرج ناصر من العدوان ظافرا بقناة السويس المصرية، وبشعبية جبارة لم يفقدها حتى مع انتكاسة حكمه في 67.
في بداية عهده أمر الرئيس السيسي قواتنا المسلحة بالثأر لبعض المصريين الذين قتلوا في ليبيا غدرًا وغيلة، فانطلقت مقاتلاتنا على جناح النار والبارود ولم تعد إلا بحق الشهداء، وبالطبع ثارت علينا ثائرة الأمم المتحدة بقيادة أميركا.
لقد غردنا بمقاتلاتنا خارج السرب.. وباليقين وفي خضم هذه الثورة ولدت زعامة الرئيس السيسي وشعبيته الجارفة. هي الآن تواجه تحديات كبري بالضرورة مع جريان مياه كثيرة تحت الجسور!
أظن -وبعض الظن ليس إثما – بل هو من الفضائل أحيانا، أن المصريين في الأزمات يتناسون خلافاتهم، وينحي المعارضون الوطنيون أحاديث الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويرسلونها إلى فنادق الذاكرة، مؤقتًا، كلما أطلت برأسها مصيبة من النوع الذي يجرح كبرياء الوطن. وأظن أن صديقي المعارض فعل ذلك عندما تلقى أول الأنباء عن واقعة حميدتي (قائد قوات الدعم السريع التي أطبقت على جنودنا في القاعدة ) ونحي الخلافات، ونحى المعارضة مع الدولة جانبًا، وباليقين وقف مع الجنود.. وقفة الشعب الواحد.
لا ينكر أحد حجم المشاعر العاصفة المؤلمة التي انتابت المصريين.. شعرنا بأن هناك ما هو فوق الغدر وما يتجاوزه إلى الإهانة، ومنها إلى الأسئلة: ما سبب إجبار الجنود على وضع أياديهم مشبوكة إلى خلف رؤوسهم وكأنهم أسرى معارك؟ جنود يستحقون التحية العسكرية المتبادلة، فما هم بمرتزقة ولا معتدين، بل مجرد مشاركين في تدريبات ومناورات متفق عليها مع قيادة الجيش السوداني! ما سبب تجاهل جنسية هؤلاء الجنود؟ إنهم مصريون.. والسودان هو الشقيق الذي ارتبط تاريخيا وجغرافيا بمصر، ولايزال رغم الانفصال هو العمق المصري وهو الوشائج التي لا تنقطع. وكيف تنقطع وملايين السودانيين يعيشون في مصر، وأصبحوا نسيجا واحدا مع إخوانهم، لا تفرقة ولا مفارقة.
صادم ومحزن ومؤلم ما حدث.. ماذا لو أن الكاميرات نقلت مشهد إهانة من نوع ما؟ ماذا لو انفلت العيار من أحد الجند؟ ماذا لو انطلقت رصاصة بحجم الغضب؟ لذلك وقبل أن استقبل بكل ارتياح هدوء الرئيس والجيش المصري العظيم، في معالجة الأزمة بالحكمة والتأني وإدراك تام بحجم الحريق الذي يمكن أن يحدث، كتبت إننا لا يمكننا أبدا ضرب السودان أو أي دولة عربية. نحن لا نعتدي على الأشقاء.. ولكننا نواجه مثل هذه المحن بصبر وتأن .
هذا الشعب الذي عاش المحنة على أطراف أصابعه من حقه أن يتأكد أنه لن يعيش لحظة مماثلة مرة أخري، هذا لن يتأتى بغير إشراك الشعب في أمره. من حقه مصارحة ومكاشفة تعيد الاعتبار المفقود للبرلمان، وللجنة الأمن القومي، التي كانت في زمن غابر تستمع إلى شهادات من وزير دفاع بحجم أبو غزالة. ومن حق هذه الأمة أن تحصل على ديمقراطية حقيقية، وانتخابات برلمانية ومحلية ورئاسية حرة نزيهة، وأن يكون لها حكومة كفؤة، تعرف كيف تتعامل مع أولويات الشعب واحتياجاته وتعبر عنه وتقف إلى جانبه في مثل هذه المخاطر .
لا أقلل من حجم مخاوف الدولة ممن يسميهم الرئيس أهل الشر، الذين يتربصون بنا ويستخدمون كل الأكاذيب- والحقائق أيضا- لاستعادة ما فقدوه، ولكن في الحقيقة نحن أحيانا نقدم لأهل الشر رؤوسنا على طبق من ذهب وهو ما لا يجب استمراره أبدًا.. لا يمكن أن نرهن مستقبل هذه الأمة بالخوف من عودة الإخوان، وإنما علينا أن نعمل ليلا ونهارا كي لا يحققوا حلم العودة.
في رباعية مذهلة لعمنا صلاح جاهين، تستحق منا أن نبرزها ونضعها في الحفظ والصون يقول:
حبيت اوصف الاخوان مالقيت ليهم وصف
قريت عن ابن سلول ومسيلمة حقيقي طلعوا أخف
قضيت حياتي أدَوّر لفيت الدنيا لف
عجز لساني عن الشتيمة فنزلت فيهم تف
صلاح جاهين يعبر بهذه الأبيات عن كل مصري، فلماذا نترك الفرصة لأهل الشر، ولا نقوي البلد بالحرية والديمقراطية وتداول السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة؟
هذا هو الحل الوحيد.. لمصر !
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأ خبار المحلية