منذ اندلاع العدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة، خرجت جموع غفيرة في مدن أوروبية من برلين إلى لندن، ومن باريس إلى مدريد، تندد بالمجازر اليومية التي ترتكب بحق المدنيين، وتطالب بوقف ما بات يعرف بالهولوكوست الصهيوني ضد أبناء غزة.
هذا التعاطف الشعبي الأوروبي، غير المسبوق في حجمه واستمراريته، والذي انتقل من الشعوب إلى الحكومات، شكّل فرصة استراتيجية للعرب – حكومات ومؤسسات – لاستغلال الحراك والتعاطف الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية، وتفعيل أدوات القانون الدولي في مواجهة الاحتلال. لكن، كالعادة، ضاعت الفرصة.
فلماذا لم يُستثمر هذا الزخم الحكومي والشعبي الأوروبي؟ ولماذا غابت تحركات عربية جادة ومنسقة؟ هل نحن أمام قصور في الفهم السياسي، أم عجز في الإرادة؟
الرهان الخاسر على أمريكا
لطالما راهنت بعض الأنظمة العربية – عبثًا – على تغير المواقف الأمريكية تجاه إسرائيل، متجاهلة أن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب ليست تحالفًا عابرًا، بل ارتباطًا عضويًا تتحكم فيه مصالح راسخة ولوبي يهودي نافذ يخترق بنية المؤسسة السياسية الأمريكية.
من الكونجرس إلى الإعلام، ومن صناديق الانتخابات إلى جماعات الضغط، لا يُسمع صوت يعارض إسرائيل إلا ويُقمع أو يُتهم بمعاداة السامية.
وما يُظهره دونالد ترامب مؤخرًا من تعاطف مصطنع مع سكان غزة ليس إلا خدعة سياسية مكشوفة، هدفها الحقيقي خدمة بنيامين نتنياهو الذي يعاني من أزمات داخلية وخارجية، وكسب ودّ اليمين المتطرف والناخبين الصهاينة، وتهدئة ذوي الأسرى الإسرائيليين الغاضبين، من خلال إيهامهم بأن ضغطًا أمريكيًا قد يفرض صفقة تضمن عودة أبنائهم، ولو على حساب الدم الفلسطيني.
فرصة أوروبية ضائعة
في المقابل، تبدو أوروبا أقل انحيازًا لإسرائيل من الولايات المتحدة، خاصة في الفترة الأخيرة حيث أبدت بريطانيا وهولندا وفرنسا استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين تعاطفا مع مجازر غزة.
ورغم محاولة بعض الحكومات الأوروبية إرضاء إسرائيل بقرارات قمعية ضد المتضامنين مع غزة، فإن الساحة كانت – ولا تزال – مهيأة لتحرك دبلوماسي عربي موحد، قادر على استثمار الزخم الشعبي وتحويله إلى ضغط سياسي.
لكن ذلك لم يحدث. أين هي الوفود العربية الموحّدة التي كان يمكن أن تزور عواصم القرار الأوروبي حاملة أدلة على جرائم الحرب؟ أين التنسيق القانوني والإعلامي؟ أين المبادرات العربية داخل الأمم المتحدة والمحاكم الدولية؟ لماذا تركت غزة وحدها تواجه الكيان المدجج بالدعم العسكري والإعلامي الغربي؟
ثقل عربي مُهدر
ما يزيد من فداحة هذا التقاعس، أن الدول العربية ليست كيانات هامشية أو بلا وزن. نحن نتحدث عن 22 دولة تمتد من الخليج إلى المحيط، يتجاوز عدد سكانها 450 مليون نسمة، وتملك احتياطيات نفطية وغازية هائلة، وتتحكم في ممرات استراتيجية بحرية، وتملك أدوات ضغط اقتصادية وسياسية معتبرة.
لو اتفقت هذه الدول على موقف عربي موحد – ولو لمرة واحدة – يربط علاقاتها مع أوروبا بمواقف واضحة تجاه وقف العدوان، لكان من الصعب تجاهل الصوت العربي.
بل كان يمكن إعادة التوازن إلى المعادلة الدولية المنحازة، لا بفعل القوة، بل بتوظيف ما تملكه الدول العربية من نفوذ.
لكن هذا الثقل ظل معطلاً، بسبب الانقسامات السياسية، والنزاعات الإقليمية، وغياب الرؤية الواحدة، فتحول الصوت العربي إلى همس خافت وسط صراخ القنابل وصمت المجتمع الدولي.
جامعة عربية.. أم مؤسسة بلا حياة؟
لم يعد أمام جامعة الدول العربية، بعدما فقدت الكثير من هيبتها، سوى خيارين: إما أن تستفيق من سباتها وتبدأ تحركًا جادًا وفعّالًا يعيد شيئًا من الدور العربي المفقود، أو أن تعلن نهايتها رسميًا وتشيّع نفسها إلى مثواها الأخير. فالعالم يتغير، والشعوب تتقدم، ولا مكان لمن لا يفعل ولا يتحرك.
اليوم، غزة ليست مجرد ساحة حرب، بل اختبار أخلاقي وإنساني وسياسي. هي مرآة تعكس حالنا جميعًا: هل نملك بعد ما يكفي من ضمير وشجاعة لكي ننتصر لحق واضح وعدالة مغيبة؟ أم أننا نواصل سياسة الإنكار، حتى نصبح شركاء في الجريمة بالصمت والتقاعس؟